إسرائيل والطائفة غير المتوقعة في القدس
كثير من الناس لا يعلم أن المواجهة الأخيرة في المسجد الأقصى المبارك عشية احتفال جماعات اليمين المتطرف شهدت مشاركةً أكبر مما كانت دولة الاحتلال تتخيل من حيث النوعية لا الكم فقط.
شبان فلسطينيون يتخذون مواقعهم في باحة مجمع المسجد الأقصى بالقدس، ويظهر مسجد قبة الصخرة في الخلفية، خلال مواجهات مع قوات الشرطة الإسرائيلية في وقت مبكر من يوم 22 أبريل، 2022.   (AFP)

فالأمر لم يعُد مرتبطاً فقط بالفلسطينيين، وإنما بغيرهم من المسلمين الذين وصلت أعداد منهم بطرق مختلفة -بعضها في غاية الغرابة- لأجل المساهمة في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك في هذه الظروف.

فلم تكن قصة المواطن السوداني حسين زكريا الذي أصيب بإصابةٍ خطيرةٍ بالرصاص المطاطي في رأسه، نُقل على أثرها إلى العناية المكثفة في مستشفى المقاصد الخيرية بالقدس، الحالة الوحيدة لأحد المعتكفين المرابطين في المسجد الأقصى المبارك من غير الفلسطينيين.

فعدد المعتكفين في المسجد الأقصى من غير الفلسطينيين كان لافتاً هذا العام، وكانت مشاركة كثير منهم في فعاليات الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك خلال اقتحامات الجماعات المتطرفة لافتةً أيضاً، بحيث باتت الصورة التي تريد إسرائيل ترويجها عن "السائح المسلم المهذب" غير موجودة في الحقيقة.

هذه الظاهرة ربما تثير مسألةً حساسةً كثيراً ما يتصاعد الجدل حولها، وهي مسألة زيارة القدس من غير الفلسطينيين. وكان الجدل حول هذه المسألة قد تفجر بعد الدعوات المتتالية التي تبنتها السلطة الفلسطينية ودافعت عنها بحماسةٍ على مدار السنوات العشر الماضية تحت زعم "زيارة الأسير في أسره"، في مقابل إعلان عدد من المنظمات والمؤسسات والهيئات الشعبية والعُلَمائية الرفض العامّ والقاطع لأي زيارةٍ للقدس تحت الاحتلال.

ولست هنا في معرض مناقشة هذه المسألة سلباً أو إيجاباً، فالرفض العام لدعوة السلطة الفلسطينية وأقطابها لزيارة القدس مفهومٌ، بالنظر إلى سجل السلطة الحافل في مجال التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، بما شكل حاجزاً من انعدام الثقة بينها وبين الجمهور الرافض لفكرة التنسيق مع الاحتلال.

وفي نفس الوقت، فإن المواقف التي رأيناها في الفترة الأخيرة من بعض الذين تمكنوا من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك تضع على الطاولة مسألةً لم تكن في حسبان الاحتلال، وهي انقلاب السحر على الساحر، وتحول من يعتبرهم الاحتلال "سياحاً" يفيدونه في رسم صورةٍ ديمقراطيةٍ آمنةٍ عن إسرائيل إلى ضربةٍ جديدةٍ لمشروعه في القدس لم تكن في حسبانه.

للعلم، ليس كل من تمكن من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك قد دخله بالتنسيق مع الاحتلال، فهناك على سبيل المثال ما ينوف على 75 ألف سوداني مسلم تمكنوا من التسلل عبر الحدود الفلسطينية-المصرية في سيناء على مدار سنوات لأهدافٍ مختلفةٍ، وهم حتى الآن يُعتبرون مقيمين غير شرعيين لا تملك الحكومة الإسرائيلية القدرة على ترحيلهم، بعد صدور قرارات قضائية تمنع ترحيلهم خارج البلاد بموجب القانون الدولي الخاص بتعريف الحالة في دارفور، إذ كانت إسرائيل -في خضم عداوتها للنظام السوداني السابق- تعتبر على الدوام أن ما يجري في دارفور حربٌ أهلية، لذلك وجدت نفسها مضطرةً إلى إبقاء هذه الكتلة البشرية الكبيرة في مدنها الرئيسية وعلى رأسها تل أبيب ريثما تجد حلّاً، كما يوجد نحو 60 ألف إريتري مثلهم، وتخيل معي لو أن هذه الكتلة البشرية انضمَّت إلى جهود الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك الذي تنظر إليه بفهمها الإسلامي السهل والواضح باعتباره مقدَّساً إسلامياً تحت الاحتلال.

كما أن حمَلة الجنسيات الأوروبية والأمريكية والأسترالية الذين تتمتع دولهم بقدرٍ من القدرة النسبية على حمايتهم في وجه أي تغوُّل إسرائيلي يشكِّلون صداعاً دائماً لسلطات الاحتلال، فقد حصل سابقاً أن تم القبض على مواطنين بريطانيين وأيرلنديين وأمريكيين وغيرهم بتهمٍ متعددة تدور كلها حول مساندة القضية الفلسطينية. ويأتي الأتراك ضمن الفئة التالية بكل ما عندهم من عاطفةٍ قويةٍ في الارتباط بالمسجد الأقصى والقدس، بما يجعل مشاركتهم الفعالة في جهود حماية الأقصى مفهومةً كذلك. وهذه الفئات لا نجد لدى المقدسيين رفضاً لوجودها في القدس إلا في حالات محددة.

ويمكن عزو ذلك إلى أن المقدسيين باتوا على قدرةٍ عاليةٍ على التفريق بين الذين يأتون إلى القدس من بوابة الترويج للتطبيع مع إسرائيل والقادمين إليها استغلالاً لجنسياتهم وجوازات سفرهم التي تسمح لهم بالوصول إلى هنا، أو حتى بالتسلل عبر الحدود أحياناً، بدافع الانضمام إلى جهود الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك الشعبية وعدم السماح باستفراد الاحتلال بالمقدسيين خصوصاً والفلسطينيين عموماً.

ولذلك نجد المقدسيين الذين طردوا إحدى الشخصيات الخليجية المعروفة بتطبيعها مع الاحتلال، هم أنفسهم الذين يقابلون بعض القادمين من تركيا وأوروبا وغيرها الذين يشاركونهم مقاومة قطعان المستوطنين في الأقصى بالترحاب ويتسابقون لاستضافتهم في منازلهم، وهم أنفسهم الذين تسابقوا لزيارة المواطن السوداني حسين زكريا ورعايته في المستشفى، وحماية المصابين من غير الفلسطينيين الذين أصيبوا خلال المواجهات الأخيرة في المسجد الأقصى المبارك دون الحاجة إلى الترويج لهم أو ذكر أسمائهم لأجل حمايتهم من تغوُّل الاحتلال عليهم لاحقاً.

لا أدعو هنا إلى زيارة أو عدم زيارة القدس من خلال الاحتلال، ولكني أتبنى رأياً يعتمد على طبيعة الحالة الفردية التي أمامنا ومدى انزعاج الاحتلال من هذه الحالة، فينبغي التفريق هنا بين حالتين: أولاهما من يصل إلى المسجد الأقصى المبارك بهدف السياحة والتقاط "سيلفي" داخل المسجد الأقصى المبارك والبقاء "مهذباً" أمام اعتداءات الاحتلال بحجة أداء الصلاة في المسجد الأقصى، وهذا في نظري غير مرحَّب به لأنه يدعم من حيث يدري أو لا يدري الصورة التي تروِّجها حكومة الاحتلال حول كونها دولة ديمقراطيةً منفتحةً على الجميع.

والحالة الثانية هي من يتمكن من الوصول إلى المسجد الأقصى للمشاركة حقيقةً وبفعاليةٍ في الدفاع عنه كما هو حال المعتكفين المرابطين في المسجد الأقصى المبارك الذين يزعجون الاحتلال بفعالياتهم ومقاومتهم لوجود الجماعات المتطرفة في قلب الأقصى، كما رأينا في الفيديوهات التي انتشرت في الأيام الماضية خلال اقتحامات شهر رمضان المبارك، فهذا يشكل داعماً فعلياً حقيقياً للمقدسيين في دفاعهم عن الأقصى لأن وجوده مزعج للاحتلال حقيقةً.

ولا يمكن لأحد أن يحاول خداع نفسه فيدّعي أن أداء ركعتين في المسجد الأقصى المبارك يُعتبر "مساهمة في الدفاع عنه"! فالأقصى في غنىً عن ركعتين تستغلّهما دولة الاحتلال في ترويج صورتها أمام العالم، والمرء يمكنه أن يحاول خداع الناس جميعاً، لكنه لا يستطيع أن يخدع نفسه.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي