إجراءات ألمانيا الجديدة.. بين محاربة التطرّف وتعزيز العنصرية
ما زالت الدول الأوروبية تنظر إلى التطرّف الديني على أنه خطر حقيقي قادر على تفكيك وحدة المجتمع التي ينشدونها. لم يعد يقتصر الموضوع اليوم على الحالة الرسمية فحسب، بل لقد أصبح يُشكّل حالة اجتماعية عامة.
الشرطة الألمانية لاحتواء مظاهرة لجماعة اليمين المتطرف (Others)

ما زالت الدول الأوروبية تنظر إلى التطرّف الديني على أنه خطر حقيقي قادر على تفكيك وحدة المجتمع التي ينشدونها. لم يعد يقتصر الموضوع اليوم على الحالة الرسمية فحسب، بل لقد أصبح يُشكّل حالة اجتماعية عامة، ذلك أن حالة "الإسلاموفوبيا" بدأت تترك أثرها بين الأوساط الاجتماعية الأوروبية وامتدت في حالات لا تُعدّ ولا تُحصى نحو الأوساط العربية من غير المحسوبين على التيارات المحافظة.

لقد بدأ التخوف من الإسلام ينتشر في الدول الغربية من بعد هجمات سبتمبر/أيلول في أمريكا، فبدأت قيود السفر تُفرض على الراغبين في الهجرة، كما شرعت الحكومات بوضع علامات استفهام مختلفة حول أشخاص معينين بسبب انتماءاتهم فحسب من دون وجود أي مبرر آخر.

تصاعدت تلك الحالة بالتدريج في أوروبا وازدادت وضوحاً مع وصول أعداد لا مثيل لها مِن قبلُ من المهاجرين جراء التقلبات السياسية في الشرق الأوسط والعالم العربي، وبالتزامن مع حدوث هجمات إرهابية في مختلف أنحاء أوروبا نُسبت أغلبها إلى متطرفين إسلاميين منتمين أو غير منتمين إلى جماعات إسلامية منظمة، أو رصد نشاط بعض الشخصيات التي تعمل على نشر أفكار دينية متطرفة في محاولات استمالة البعض للانضمام إلى صفوف الجماعات المحظورة.

إلى حدِّ اللحظة قد تبدو الأمور، ولو أنها تُنافي مبدأ العدالة إلى حدٍ كبير، مندرجة تندرج في إطار متسق في الإجمال مع سياسة أوروبا المدنية التي قطعت صلة المؤسسات بالكنيسة منذ زمن بعيد، فهي من المنطلق ذاته ترفض تغلغل الأفكار الدينية المتطرفة في المجتمع الذي تحاول الحفاظ على مدنيته والتزامه القانون الوضعي الذي يُطبّق على الجميع بصيغة متساوية.

لكن الأمر برمته يصبح غريباً حين يصبح مبالغاً فيه ومستهدفاً في الوقت نفسه شريحة معينة من الناس المقيمين دون غيرهم، ويتعدى ذلك إلى التدخل في حرية اعتقادهم أو التضييق عليهم في ممارسة شعائرهم الدينية بالتزامن مع ضخ إعلامي وشعبي وسياسي مكثف ضد جماعة بعينها.

فإذا كانت بعض الهجمات الإرهابية قد ارتُكبت باسم الدين وتحت شعاره أعمال عنف فهل يعني ذلك تعميم الحالة وحصار كل من ينتمي لذلك الدين؟ خاصة وأن القوانين الجنائية في النُّظم القانونية المتبعة في العالم تؤكد أن تكون العقوبة شخصية بمعنى أنها لا تتعدى الفاعل الحقيقي للجرم أياً كان نوعه لتشمل عائلته أو محيطه أو مجتمعه، وفي هذا تطبيق لأبسط مفاهيم العدالة، إذ إنه من غير المنطقي أن يُحاكَم مجتمع كامل ويتحمّل وزر فعل جنائي ارتكبه واحد من أبنائه.

حدا ازدياد الخطر والتهديد وارتفاعهما، بحسب زعم الحكومة الألمانية، إلى تطبيقهم حزمة إجراءات جديدة تستهدف التنظيمات المتطرفة والجماعات المؤدلجة لمواجهة انتشارها وتوغلها في المجتمع وقطع مصادر تمويلها، تزامناً مع استراتيجية عامة لمكافحة الإرهاب والتطرف.

تعمل الأجندة الجديدة للحكومة الألمانية على تغيير البيئة التشريعية بدعمها قوانين تسمح بمرونة أكبر لتعقب الجماعات المستهدفة ومصادر تمويلها، وتُطلق يد الشرطة بالتنسيق المشترك بين السلطات الأمنية والاستخباراتية لرصد نشاطها ومحاصرة مصادر تمويلها، وقد يؤدي ذلك إلى إغلاق دُور عبادة وجمعيات ومؤسسات خيرية للاشتباه بأنها بؤر للعمليات الإرهابية المتطرفة، الأمر الذي قد يُسبب حالة من الإقصاء لشريحة واسعة من المسلمين في ألمانيا عن المشهد السياسي والاجتماعي بشكل عام ويُبدد أي جهود مبذولة من الأطراف المعنية من أجل إدماج المهاجرين في المجتمع الألماني.

ليست النتيجة المطروحة مستبعدة فقد سببت مثل هذه القوانين لدى جارة ألمانيا فرنسا استياءً واسعاً لدى مسلميها بشعورهم أنهم مستهدفون بشكل شخصي ومباشر، جراء تطبيق قانون مكافحة الانفصالية الإسلامية الذي أقرّه البرلمان الفرنسي في أغسطس/آب عام 2021، بحيث استشعر مسلمو فرنسا أنها وصمة بحقهم كونهم مكوّن كبير في المجتمع، ولم تنفع بعد ذلك تطمينات الحكومة بأن ذلك القانون لا يشمل المسلمين كافة وإنما يقتصر على المتشددين منهم، وترسّخ لديهم شعور بالارتياب والخوف من تعميم التصنيف واستهدافهم كفئة وإحساسهم بأن الحكومة تستخدمهم كمادة للدعاية الانتخابية في ظلّ فشلها المستمر في تحقيق مطالب الناخبين.

القانون المذكور تسبب بإغلاق قرابة العشرين مسجداً خلال عام واحد منذ سنة تقريباً، فقد كانت خطب الجوامع والأئمة مراقبة بشكل مكثف الأمر الذي يتسبب بإغلاق مباشر للمسجد في حال ارتكاب الخطيب خطأ في خطبته أو في حال كانت لا تتناسب أو تتعارض مع قانون الانفصالية.

يواجه مسلمو أوروبا اليوم خطراً بنبذهم في داخل مجتمعاتهم في مواجهة قوانين تمييزية إقصائية تسعى لمراقبة شعائرهم الدينية ومحاكمتها في وقت لا تتعرض الكنائس فيه لمثل هذه الإجراءات، ما قد يجعلهم سبباً في فتح الباب على مصراعيه أمام المتشددين الذين يحاولون استمالة المسلمين مدللين على ذلك بعنصرية وإقصائية مثل تلك القوانين.

مع صعود نجم اليمين المتطرف في أوروبا ككل وبدء الشرائح الشعبية بتمثل أفكاره ومبادئه بدأت بعض الدول العمل على تغيير البيئة التشريعية العامة التي تُتيح مجالاً لتقبّل الآخر والحفاظ على حرية المعتقد وأخذت تتجه نحو التضييق على القادمين ليس بشكل اجتماعي فحسب وإنما بتغيير وتعديل القوانين الناظمة لحياة الناس التي كانت تتسم بالمرونة والمساواة، غير أن السؤال المطروح هنا: أليست المغالاة في تطبيق القانون وحصر تطبيقه على فئة معيّنة من دون غيرها يُعدّ تطرفاً أيضاً؟ أم أنّ التطرّف والإرهاب والجريمة ليسوا سوى صفات تتعلق بفئة محددة.

ما يزيد الطين بلّة هو وصول تلك الأحزاب الراديكالية للسلطة وتطبيق ما جاءت من أجله، ما يعني سياسات وإجراءات عدائية ضدّ الهجرة والتوعّد ضد اللاجئين والمهاجرين والتضييق على المسلمين بطرق شتى واستخدامهم شمّاعة تعلّق عليها فشل السياسات والإجراءات الحكومية، فيجعلنا ذلك أمام حقبة زمنية جديدة كلياً ومختلفة لن تكون فيها ألمانيا وفرنسا وحيدتين في سنّ قوانين مشابهة.

إنّ محاولة تغيير البيئة التشريعية يشكّل خطوة تمهيدية لتغيير المزاج العام للبلاد بحيث تصبح بيئة نابذة وطاردة لمن لا يشبهها بالهوية أو بالمعتقدات، وليس ذلك سوى تطرفٍ من نوع آخر ولكن بطريقة مشروعة ومصرّح بها قانونياً واجتماعياً، لكنّه يرسخ لعنصرية بين فئات الخليط المتجانس المقيم في أوروبا وقد يؤدي ذلك إلى صبغ شرائح المجتمع بلون واحد وانعدام فرص التعدد والمساواة وتهديد القوانين المدنية الوضعية الناظمة القائمة على العدالة التي يدعون أنهم يحاربون التطرّف للحفاظ عليها.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي