في الوقت الذي أعلن فيه نجله، القائد العسكري محمد إدريس ديبي، تولي زمام الحكم عبر مجلس عسكري يدير شؤون البلاد حتى إجراء انتخابات، لا يزال موت الرئيس التشادي إدريس ديبي مثيراً وغامضاً وغير واضح.
وإن كان رسمياً توُفّي متأثراً بجراح أصيب بها في القتال خلال عطلة نهاية الأسبوع، فإن التساؤلات ما زالت مطروحة عن الجهة المستفيدة من قتله بعد انتخابه لولاية سادسة بيوم واحد، رغم أن الجهة المتهمة معروفة، وهي "جبهة من أجل التناوب والوفاق في تشاد"، وهي حركة معارضة مسلحة تتكون أساساً من قبائل غوران التشادية، مقرها في جنوب ليبيا منذ عدة سنوات.
تُعتبر هذه الجبهة نقطة عبور كبيرة على الحدود التشادية-الليبية، بل كانت ضمن المليشيات المقاتلة مع خليفة حفتر في هجماته على الجنوب الليبي وحقول النفط هناك، مما يطرح أسئلة عن دور حفتر في تشاد، التي احتُجز فيها سنة 1987 في معركة "وادي الدوم".
ما دور حلفاء حفتر؟
حسب صحيفة ميديابرت الفرنسية، تتكون "جبهة من أجل التناوب والوفاق في تشاد" من ألف أو 1500 مقاتل، ولديها ترسانة هائلة وموارد مالية كبيرة جمعتها في السنوات الأخيرة، عندما كانت تخدم معسكر حفتر في سعيه للسلطة في ليبيا بدعم من حلفاء أقوياء، من ضمنهم الإمارات وروسيا.
تحالُف حفتر مع الجبهة التي يقودها محمد مهدي علي سمح لها بتخزين كمية من الأسلحة تحسدها عليها الجماعات التشادية المتمردة الأخرى في المنفى، التي يقول أحد زعمائها متحدثاً عن محمد مهدي إن "لديه موارد ضخمة، وهذا ما جعله يدخل وحده في مغامرته دون أن يخبرنا"، وقد يكون ذلك أيضاً هو السبب في تقدمه بسرعة كبيرة باتجاه جنوب البلاد، على الرغم من قصف الجيش التشادي، كما يقول الموقع.
على بعد نحو 400 كيلومتر من العاصمة نجامينا، دارت معارك دامية بين الجبهة المتمردة والجيش التشادي أسفرت -حسب الجيش- عن قتل وأسر مئات المتمردين، وعن نصر مؤزَّر وتحرير كامل حسب المتمردين، وإن كانت الخسائر من كلا الجانبين كبيرة في الواقع، ولم يحقّق أي الطرفين نصراً مؤزراً، حسب ميديابارت.
ودارت معارك جديدة في اليوم التالي بنفس النتيجة، فقرر ديبي -حسب ما ورد من أنباء- الذهاب إلى الجبهة كما فعل العام الماضي في منطقة بحيرة تشاد ضدّ مقاتلي بوكو حرام، وذلك "لتحفيز قواته"، كما قال أحد أفراد حاشيته، و"لتنفيذ عمليات" كما قال أحد الجنود، وهناك أصيب، وإن كانت الروايات غير متطابقة في هذا الجانب من القصة.
تواصل الصحيفة الفرنسية تشكيكها في الرواية الرسمية، فحسب مصدر مقرب في مجتمع الزغاوة الذي ينتمي إليه ديبي، كان الرئيس على الخطوط الأمامية فجر يوم الاثنين عندما هاجمه المتمردون على حين غرة، وأصابوه وقتلوا عدداً من الحرس الرئاسي، وفي بيان لاحق زعم المتمردون قتل 7 وجرح 8 آخرين بينهم ديبي الذي ورد أنه أصيب برصاصة في رأسه، ونُقل إلى العاصمة في حوامة.
وشبّه موقع ميديابارت هذه الرواية بتلك التي قدمها الجيش، قائلاً إن "مشير تشاد إدريس ديبي إيتنو، كما يفعل كلما تعرضت المؤسسات الجمهورية لتهديد خطير، تولى قيادة العمليات خلال المعركة البطولية ضد جحافل الإرهابيين القادمين من ليبيا، وقد أصيب في الاشتباكات وأسلم روحه عندما أعيد إلى إنجامينا".
فتّش عن حفتر!
في معرض حديثها عن مقتل إدريس ديبي، وصفت مجلة لوبوان الفرنسية الرئيس الراحل إدريس ديبي إيتنو بأنه البيدق المناسب الذي اختارته فرنسا في لعبة العلاقات التي لا تنفصم بين فرنسا وتشاد للإطاحة بسلفه حسين حبري الذي خانها بإخفاء "قوات حفتر" مع الأمريكيين.
ديبي عندما تولى السلطة في انقلاب 1 ديسمبر/كانون الأول 1990 لم يكن قادراً على النجاح إلا بفضل دعم فرنسا التي كانت حاضرة بقوة، وكان جيشها يستطيع وقف زحف قواته القادمة من دارفور السودانية دون عناء كبير، ولكنه تركه يفعل ما فعل.
وكما ورد في مذكرات كلود سيلبيرزان المدير العام للأمن الخارجي الفرنسي من 1989 إلى 1993، فإن أجهزته علمت في ذلك الوقت أن حسين حبري خان فرنسا التي ساعدت قواته عام 1987 في صد هجوم عسكري ليبي قوي غزا شمال تشاد، وأسر الجيش التشادي على أثره مئات الجنود الليبيين، إلا أن حبري باع بلا علم من باريس ومقابل مبالغ كبيرة من الدولار، هؤلاء السجناء لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
وحسب المذكرات، نُفّذت العملية بأقصى درجات السرية، وقد حوّل العملاء الأمريكيون هؤلاء السجناء إلى وحدة من ألفي جندي جيد التجهيز ومدرَّب جيداً ويتبع ما كان يُسمَّى الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بقيادة محمد المقريف، وهو معارض للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
كانت هذه القوات تحت إمرة رجل لم يكن معروفاً تماماً، قبل أن يصبح بعد 20 عاماً شخصية مشهورة، لأنه الآن الخصم الرئيسي للسلطة الليبية الشرعية، هو العقيد الليبي وقتها خليفة حفتر الذي أصبح في خدمة الولايات المتحدة، ووحدت تحت قيادته وكالة المخابرات المركزية هذه الوحدة في منطقة لا تبعد سوى 80 كلم شمال إنجامينا للإطاحة بالقذافي عسكرياً، ومع ذلك لم يخبر أحد الفرنسيين -لا حلفاؤهم الأمريكيون ولا التشاديون- بإنشاء "قوات حفتر" هذه.
وفي عام 1990 كانت الجيوش والحكومة الفرنسية تقدّر أن حسين حبري أحد أعمدة وجودهما في المنطقة، وكان كلود سيلبيرزان وأجهزة الأمن الفرنسي الخاصة لا يزالون، وفقاً لمذكراته، يرون أن "النظام فاسد من الداخل، وأن القمع السياسي الوحشي الذي انخرط فيه حبري، والفساد، يقوّضان حكمه"، غير أن قوات حفتر كانت خيانة، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلت الاستخبارات الفرنسية تسعى للإطاحة بحبري، وإذا اقتضى الأمر التقرب من القذافي لمساعدة المنشق إدريس ديبي في دارفور فلا مشكلة.