وصلت الأزمة الليبية إلى مفترق طريق جديد بين الراغبين في الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية 2023، ومن يتحركون باتجاه مرحلة انتقالية تبدأ بتغيير السلطة التنفيذية بما فيها المجلس الرئاسي والحكومتان المتنازعتان.
التقارب المحدود الذي حدث بين رئيسَي مجلسَي النواب والدولة الليبيين مؤخراً يوشك أن يتحول إلى خلاف بين الشريكين الرئيسيين في العملية السياسية، بعد أن انفرد مجلس النواب بنشر تعديل الإعلان الدستوري في الجريدة الرسمية قبل أن يصدّق عليه المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري).
فض شراكة أم تفاهمات جديدة؟
لم يعترض خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، على نشر التعديل 13 للإعلان الدستوري، بل قال في كلمة متلفزة، إنه "وليد مشاورات مطوَّلة بين المجلسين".
غير أن كتلة وازنة في المجلس الأعلى للدولة، ترفض ما تضمّنه التعديل 13 (دستور مؤقت) وقاطعت جلسات التصويت، مما أدّى إلى تأجيلها أكثر من مرة بسبب غياب النصاب، آخرها في 24 فبراير/شباط.
ولم ينتظر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أكثر من ذلك، فنشر تعديل الإعلان الدستوري بالجريدة الرسمية في 23 فبراير، مع تأكيده أن مجلس النواب هو "السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد".
هذه الخطوة أثارت جدلاً حادّاً في طرابلس إذ عارضها كثير من النشطاء والتيارات السياسية في المنطقة الغربية، لكن الأسوأ من ذلك أنها ستعمّق الانقسام داخل المجلس الأعلى للدولة، بالنظر إلى تأييدها من رئيس المجلس والكتلة الداعمة له.
وهذا الانقسام داخل مجلس الدولة والخلاف السياسي بين المشري ورئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، من شأنه أن يخدم توجه مجلس النواب لاحتكار سلطة التشريع، بخلاف ما ينص عليه الاتفاق السياسي.
ففي كلمته أمام المؤتمر 34 للاتحاد البرلماني العربي الذي انعقد بالعاصمة العراقية بغداد في 25 فبراير، شدّد صالح على أن "مجلس النواب هو الجسم الشرعي الوحيد المعترف به دولياً"، في إشارة إلى رغبته مجدداً في تهميش المجلس الأعلى للدولة والانفراد بالسلطة التشريعية.
القاهرة تدعم خطوة صالح
وزارة الخارجية المصرية رحّبَت من جانبها -في نفس يوم الإعلان عن نشر التعديل في الجريدة الرسمية- بهذه الخطوة، ووصفت مجلس النواب بأنه "الجهة التشريعية الوحيدة المنتخبة في ليبيا".
وعلّق المحلل السياسي الليبي المقيم في الولايات المتحدة محمد بويصير، على هذا الموقف بتدوينة كتب فيها: "المصريون يؤكدون ببيان اليوم أنهم عائق كبير للانتخابات، وسبب لاستمرار الأزمة في ليبيا"، وفق تعبيره.
لكن الخارجية المصرية رغم دعمها الصريح لخطوة عقيلة صالح، أعربت عن "تطلعها إلى استكمال مجلسَي النواب والدولة الليبيين لجهودهما على صعيد إعداد قوانين الانتخابات".
ما يرجح أن مجلس النواب المدعوم من القاهرة لا يريد قطع حبل الوصال مع مجلس الدولة، وأن التعاون بينهما ما زال قائماً، شريطة قبول الأخير بالأمر الواقع، بخاصة الكتلة المعارضة منه.
إذ يراهن مجلس النواب على اعتماد تعديل الإعلان الدستوري قبل عرض المبعوث الأممي إحاطته أمام مجلس الأمن الدولي في 27 فبراير، حتى لا ينفّذ المجتمع الدولي تحذيره بالذهاب إلى آلية بديلة لمجلسي النواب والدولة، ولقطع الطريق أمام أي محاولة للمجلس الرئاسي بحلّ البرلمان.
وهذان الأمران يفسّران مسارعة عقيلة صالح إلى نشر تعديل الإعلان الدستوري قبل اعتماد مجلس الدولة له، كما ينصّ الاتفاق السياسي.
المجلس الرئاسي.. هل يكون البديل؟
في المقابل، يمكن لهذه الخطوة أن تنقلب على مجلس النواب، لأنها تُظهِر "انعدام روح الشراكة والتوافق بين المجلسين" على حد قول حزب العدالة والبناء (إسلامي).
"العدالة والبناء" الذي يُعَدّ أبرز حزب ناشط في البلاد، طالب "بإيجاد البدائل المناسبة لإنجاز قاعدة دستورية، وفي مقدمة ذلك تولي المجلس الرئاسي لهذا الملف"، بعد "فشل المجلسين" في وضعها.
فالرهان أصبح معلَّقاً على اجتماع مجلس الأمن، وما سيقدِّمه المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، في إحاطته عن الوضع في ليبيا، وما إذا كان سيطالب مجدداً بآلية بديلة عن مجلسي النواب والدولة، أو سيفضل منحهما مزيداً من الوقت.
باتيلي من جانبه لم يعلن بعد عن خطته أو خريطة الطريق التي سيقترحها على مجلس الأمن، لكنه اكتفى بالإشارة إلى أنه اتفق مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على ضرورة دعم المجتمع الدولي "لحلّ تيسّره الأمم المتحدة ويملك زمامه الليبيون، من أجل إجراء الانتخابات في 2023".
والواضح أن باتيلي لا يريد تقديم حلّ جاهز لليبيين، لكنه يسعى لتسهيل اتفاقهم على حلّ يؤدّي بهم إلى انتخابات تنهي أزمة الشرعية في البلاد.
ولا مؤشرات حاليّاً على أن باتيلي سيقترح على مجلس الأمن آلية بديلة عن مجلسي النواب والدولة، على غرار ملتقى الحوار السياسي الذي أشرفت على تشكيله نائبة رئيس البعثة الأممية الأمريكية ستيفاني وليامز في 2020، أو اللجوء إلى المجلس الرئاسي لوضع قاعدة دستورية وإصدار قوانين الانتخابات، كما يطالب بذلك "العدالة والبناء".
فالأمم المتحدة لا تريد فرض أي حل على الليبيين، لكن اعتماد مجلس النواب للتعديل الدستوري دون تصديق المجلس الأعلى للدولة، رسالة خاطئة للمجتمع الدولي بأنه لا توافق بين الليبيين للذهاب نحو الانتخابات.
الانتخابات أو مرحلة انتقالية
لا يُبدِي المجتمع الدولي حماسة لمقترح صالح بتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، لأنه سبق أن جرّب 11 حكومة ليبية منذ 2011، دون أن يحسم ملف الانتخابات.
فالحلّ في ليبيا -وفق عدة دول مهتمة بالملفّ- هو الذهاب إلى انتخابات وفق قاعدة دستورية وقوانين متفق عليها، فيما لن تؤدّي إعادة تشكيل مجلس رئاسي وحكومة جديدين إلا إلى دخول مرحلة انتقالية جديدة.
هذا ما عبّر عنه نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي بقوله: "أي عملية سياسية تخرج بسلطة تنفيذية جديدة لن تصل بليبيا إلى برّ الأمان، بل إلى جسم جديد يحكم لفترة أخرى بلا انتخابات".
فسيناريو تشكيل حكومات جديدة أصبح مكرَّراً في ليبيا، إلى الدرجة التي أصبح فيها من السهل توقع نتائجه ومآلاته، وفق ما سمّته المستشارة الأممية السابقة ستيفاني وليامز، "لعبة الكراسي الموسيقية".
أي في كل مرة يخرج واحد من اللعبة بعد أن يفقد مقعده، لأن المناصب لا تكفي الجميع.