أعادت التطورات الأخيرة في تشاد صراع القوى الدولية في إفريقيا إلى واجهة المشهد من جديد، وأثارت الكثير من التساؤلات حول ملامح تشاد ما بعد إدريس ديبي.
والرئيس الراحل كان أبرز ضحايا الجولة الأخيرة من النزاع المسلح مع المعارضة في بلاده التي شهدت خلال حكمه الذي استمر ثلاثة عقود العديد من الجولات المشابهة، كانت باريس "الملاك الحارس" فيها لرجل إنجمينا القوي
تشاد الحليف في مواجهة الإرهابيين
تعتبر باريس تشاد منطقة نفوذ تاريخي لها منذ احتلالها بين عامي 1900-1960، ورغم الفتور النسبي في العلاقة مع تبني فرنسا لسياسة "فك الارتباط بالمستعمرات السابقة" في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، فإن التهديد المتصاعد الحركات المسلحة في منطقة الساحل وبحيرة تشاد متّن العلاقة بين الطرفين.
تحتضن تشاد مركز القيادة لعملية برخان الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا، حيث يتمركز هناك قرابة 1000 جندي وعدد من طائرات ميراج 2000 المقاتلة، كما تضم تشاد مركز قيادة مجموعة دول الساحل الخمس، التي تحتوي قوات من تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو.
ولفرنسا قاعدة عمليات أمامية في فايا-لارجو في وسط البلاد تراقب الحدود الشمالية مع ليبيا، وأخرى في أبيشي بالقرب من الحدود مع السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى.
هذه الأهمية الاستراتيجية لتشاد ديبي دفعت فرنسا إلى حماية الماريشال الراحل في وجه التمردات التي واجهته خلال سنوات حكمه الطويل، وهو ما تكرر في 2006 و2008 ومؤخراً حيث قصفت طائراتها في فبراير/شباط 2019 المعارضين الذين كانوا يتوجهون بقواتهم صوب العاصمة.
مأزق فرنسا في تشاد
"الصديق الشجاع" هكذا وصفت باريس الرئيس الراحل، وعبّرت عن الأهمية الاستثنائية التي توليها لتشاد بانتقال إيمانويل ماكرون إلى إنجمينا للمشاركة في جنازة ديبي التي خلت من الرؤساء الغربيين بخلاف ساكن الإليزيه.
هذه المشاركة بجانب لقاء ماكرون رئيس المجلس العسكري الانتقالي في تشاد الجنرال الشاب محمد إدريس ديبي الذي انتقلت إليه السلطة بعد وفاة والده، عنتا دعماً ضمنياً للأخير، ومثلتا امتداداً للموقف الذي عبّر عنه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان عقب إعلان إجراءات الانتقال التي تضمنت حل البرلمان وانتقال السلطة إلى الجيش.
وكان لودريان صرّح للقناة الثانية بالتلفزيون الرسمي الفرنسي أن "الظروف الاستثنائية" تحتم أن تكون الأولوية هي أن يلعب المجلس العسكري الدور الرئيسي في ضمان الاستقرار، ثم التركيز على انتقال سلمي يتسم بالشفافية.
هذا الموقف الفرنسي قوبل بشجب حاد من المعارضة السياسية في تشاد، التي خرجت في تظاهرات الثلاثاء 27 أبريل/نيسان للتنديد بما وصفته بـ"الانقلاب المؤسساتي" للمجلس العسكري وبفرنسا باعتبارها الراعي الدولي له، وهو ما جوبه بعنف قوات الأمن ممّا أدى إلى مقتل 3 من المتظاهرين وجرح آخرين.
هذا الموقف اضطر الرئيس الفرنسي إلى أن يؤكد في لقائه فليكس تشيسكيدي، رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية ورئيس الاتحاد الافريقي، أن فرنسا ضد خطط توريث الحكم، وأنها تدعم الانتقال الهادئ والديمقراطي، مندداً باستخدام العنف ضد المتظاهرين.
وهي تصريحات لن تخلف صدى حسناً عند قادة الجيش في إنجمينا، وهكذا تجد باريس نفسها في موقف لا تُحسد عليه للمرة الأولى في تشاد التي لطالما تمتعت فيها بنفوذ واسع، بين إرضاء المجلس العسكري من جهة والمعارضة التشادية من جهة أخرى، في بلد يعيش انتقالاً هشاً للسلطة في ظل استقطاب حاد تتشابك فيه العوامل السياسية بنظيرتها القبلية.
موسكو في خلفية المشهد
لم يكن ما سبق مثار القلق الوحيد في باريس من تطورات الوضع في تشاد، بل انضاف إليه "همٌّ" آخر يتعلق بمطامع موسكو بتوسيع الحضور الجيوسياسي في مناطق نفوذها التقليدية في إفريقيا.
فقد ذكرت صحيفة التايمز البريطانية نقلاً عن مسؤولين أن جبهة الوفاق من أجل التغيير بتشاد (فاكت)، التي كانت تخوض معارك عنيفة مع الجيش التشادي مؤخراً، قاتلت إلى جانب مجموعة فاغنر الروسية خلال الحرب الأهلية الليبية.
وأضافت الصحيفة أن أعضاء الجبهة المذكورة تلقوا تدريبات وتسليحاً على أيدي فاغنر الجماعة شبه العسكرية التي يديرها يفغيني بريغوجين الحليف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن المناطق التي تسيطر عليها هذه المجموعة الداعمة لخليفة حفتر في ليبيا انطلق المقاتلون التشاديون في معركتهم مع إدريس ديبي.
وباريس الآن تدفع ثمن خروجها من الملف الليبي، بعد تبرؤها، وفق تقرير للأناضول، من اللواء المتقاعد خليفة حفتر بعد أن كانت أبرز داعميه الأوروبيين، وبعد أن اعتمدت عليه للدفاع عن مصالح شركاتها النفطية في ليبيا.
وترافق هذا الانسحاب مع هجوم للرئيس الفرنسي ماكرون على مجموعة فاغنر، على خلفية تحركها نحو حقل الشرارة النفطي الذي لشركة توتال الفرنسية استثمارات كبيرة فيه.
كما أن تحرك قوات المعارضة التشادية جاء على خلفية الاتفاق السياسي بين أطراف الأزمة الليبية في فبراير/شباط الماضي، والذي تضمن إخراج المرتزقة الأجانب من البلاد، حيث أعلنت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) في مارس/آذار الفائت أن البدء في إخراج المرتزقة من البلاد "سيكون خلال أسبوعين".
الممر الجيوستراتيجي الروسي
هذا الحضور الروسي في خلفية المشهد يذكر باستراتيجية موسكو في استثمار النزاعات في إفريقيا لتوسيع نفوذها من خلال شركاتها الأمنية شبه الرسمية وعلى رأسها مجموعة فاغنر، وهو ما ينطبق الآن على تشاد.
وذكرت وكالة بلومبيرغ الأمريكية أن هذه الشركات تنتشر في عدة دول إفريقية منها ليبيا وموزمبيق وإفريقيا الوسطى والسودان وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر.
وتمثل هذه الشركات رديفاً للحضور الرسمي لموسكو الراغبة في الحصول على جزء من كعكة الاستثمارات المتعلقة بالموارد الطبيعية الضخمة التي تزخر بها تشاد ومنطقة الساحل بما في ذلك اليورانيوم والذهب والنفط والغاز، بالإضافة إلى الاستيلاء على سوق السلاح في تشاد المنهمكة في محاربة معارضيها.
لا تنخرط الشركات الأمنية الروسية في تدريب الجيوش المحلية وحماية الشخصيات رفيعة المستوى ومحاربة الجماعات المتمردة والإرهابية فقط، بل لها نشاطات في مجالات اقتصادية متعلقة بالتعدين واستخدام الموارد الطبيعية وحماية مناجم الماس والذهب واليورانيوم.
هذا السعي الروسي يتجاوز المكاسب الاقتصادية إلى رؤية استراتيجية مرتبطة بإنشاء ممر جيوستراتيجي ضمن مناطق نفوذ روسي، يخترق القارة السمراء من البحر المتوسط إلى شواطئ إفريقيا الجنوبية على المحيط الهندي. ومن خلال الوجود العسكري المباشر والاتفاقيات العسكرية الروسية مع الدول الإفريقية تتحول تشاد ضمن هذه الرؤية إلى القطعة الناقصة التي تكمل هذا الممر.
وغير بعيد عن تشاد تستمر الحرب الأهلية المدمّرة في إفريقيا الوسطى الجمهورية الفرنكوفونية السابقة التي تعيش منذ قرابة عقدين حالة من عدم الاستقرار، تقف خلفها كل من موسكو الداعمة للحكومة في بانغي بحضور كبير لمرتزقة فاغنر، وباريس المؤيد الشرس لفصائل المعارضة المسلحة.
ومع التحولات الجارية في تشاد يسود التخوف من تحولها إلى ساحة صراع فرنسي روسي يعيد إلى الأذهان السيناريو المأساوي لإفريقيا الوسطى، حيث يتحول الأفارقة وقوداً لحروب مصالح القوى الكبرى.