تشقّ السيارة الفارهة التابعة لما يُسمَّى "جهاز الاستخبارات" لدى تنظيم PKK/PYD الإرهابي طريقها باتجاه مدينة القامشلي في محافظة الحسكة، حاملةً بداخلها عضواً من مجلس دير الزور المدني كان اتُّهم بالفساد وتقاضي الرشا واختلاس المال العامّ.
وعلى الرغم من أنّ ما يدْعونه قانوناً ويعملون بموجبه في المناطق التي يحتلها PKK/PYD يحدّد الاختصاص المكاني للمحاكم في "مكان وقوع الجريمة، أو المكان الذي يقيم فيه المتهم، فإن لم يكن له مكان إقامة معروف يتحدد الاختصاص في المكان الذي يُقبَض عليه فيه"، فإنّ خرق هذا القانون أصبح اعتياديّاً عندما يريد أحد كوادر التنظيم الإرهابي إزاحة شخص في أي إدارة مدنية أو عسكرية من منصبه، أو في حال رغبوا في إبعاد الشخص المستهدَف عن محيطه العشائري، وغالباً ما تكون محكمة القامشلي هي الوجهة، نظراً إلى خضوع أقضيتها بالكامل لاحتلال تنظيم PKK الإرهابي.
يُصنَّف PKK/PYD على أنه تنظيم إرهابي، وعقب اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، احتلّ أجزاء واسعة من شمال شرقيّ سوريا وفرض أحكاماً عُرفيه في إدارة المنطقة، الأمر الذي وضع حقوق سكان المنطقة الأصليين على المحكّ.
يقول حذيفة الأحمد، وهو أحد المسؤولين المطّلعين على تفاصيل عمل ما يُسمَّى "الإدارات" لدى PKK/PYD، وكان قد انشقّ عنهم بعد تَعرُّض حياته للخطر من قبلهم، إنّ اعتقال عضو المجلس المدني طارق الراشد لم يكن بأمر قضائي، بل صدر من باران، الكادر المسؤول عن محافظة دير الزور، دون ثبوت أي تهمة أو وجود أي دليل ضده، وأُطلقَ سراحه أيضاً بأمر من الكادر ذاته بعد نحو شهر من اعتقاله، لكن عودته إلى عمله كانت مستحيلة نظراً إلى قيام تنظيم PKK/PYD الإرهابي بملء الشاغر بشخص من الموالين له.
مَن الكادر؟
انتشرت كلمة ما يُعرف بـ"كادر" أو "كادرو" مع بداية احتلال تنظيم PKK/PYD الإرهابي مناطق شرق الفرات بدعم من قوات التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم داعش الإرهابي. ويطلق هذا المصطلح على كل قيادي ينتمي إلى تنظيم PKK/PYD بشرط أن يكون قادماً من جبال قنديل، ويرتبط مباشرة بالقيادة المركزية للتنظيم.
ويُعتبر "الكادر" السلطة العليا في المناطق الواقعة تحت احتلال التنظيم الإرهابي، وإن لم يكن يحمل أي صفة رسمية، ولا يخضع للقوانين المحلية للبلاد التي كان معمولاً بها قبل الاحتلال، بل إنّ جميع القضاة في المحاكم يخضعون لأوامر الكادر وقراراته. في تغوُّل واضح على السلطة القضائية في البلاد، وتغييب متعمَّد للعدالة.
غياب دور القضاة
يقول قاضٍ يعمل في إحدى محاكم المناطق الخاضعة لاحتلال PKK/PYD لموقع TRT عربي، إنّ المجلس العسكري في تلك المناطق قادر على الدخول إلى أي محكمة وإخراج أي سجين دون العودة إلى القضاة أو وضع أي اعتبار لهم"، وهذا السلوك لا يمكن وصفه إلا بـ"العمل الإرهابي" على حدّ قول القاضي.
ويرجّح القاضي الذي فضّل عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية، أنّ هذا التغول على دور القضاء سببه الرئيس هو طريقة إعداد القضاة وإنشاء المحاكم، ففي بداية احتلال تنظيم PKK الإرهابي للمنطقة أنشأ أكاديمية باسم "ميزوبوتاميا"، وهي حسب تعريفه "مؤسسة علمية متخصصة في العلوم الحقوقية والقانون والعدالة الاجتماعية" تقوم على تدريب وتأهيل قضاة موالين له وفقاً لدورات غالباً ما تكون مدتها 45 يوماً، قد تطول أحياناً إلى 6 أشهر. وهذه الأكاديمية لم تكُن تشترط على منتسبيها حمل شهادة في الحقوق، وكانت تقبل منتسبي ما دون المرحلة الجامعية، منهم حمَلة شهادة المرحلة الثانوية فقط.
ويضيف القاضي أنّ أغلب الذين تَخرَّجوا في الأكاديمية يدينون بالولاء لكوادر PKK/PYD الإرهابي بسبب الحوافز والفرصة الكبيرة التي منحوهم إياها، فمن يحمل شهادة التعليم الثانوي أو لم يُتِمّ دراسته الجامعية، لا بد أن يدين "بالولاء لمن منحه منصباً في القضاء وسلّطه على رقاب الناس"، على حد قوله. ويرى كثير من أهل المنطقة أن الهدف من هذه الأكاديمية ليس تخريج قضاة على كفاءة عدلية بقدر ما هو تخرج موالين للتنظيم الإرهابي من أجل تطويع القضاء في خدمة مآربه في قمع أهل المنطقة والسيطرة عليه باسم "القانون".
آلية تعيين القضاة الموالين لـPKK/PYD
تعجّ المناطق الواقعة تحت احتلال PKK/PYD بخرّيجي أكاديمية "ميزوبوتاميا" الذين يعملون في سلك المحاكم باختصاصات مختلفة.
يقول القاضي ف.ب، وهو أحد القضاة في مدينة الرقة، إنّ أبناء كوادر تنظيم PKK الإرهابي يدرسون في جامعات النظام السوري، وهذه الدراسة لا تتجاوز عامين دراسيين في أغلب الأحيان، ليتمّ بعدها تعيينهم في المناصب القضائية الحساسة.
ويضيف القاضي إنّ "هناك محكمة تحمل اسم (محكمة الدفاع عن الشعب) تشبه محكمة الإرهاب لدى النظام السوري، وهذه المحكمة لا يديرها إلا كوادر PKK القادمة من جبال قنديل".
هل القضاء تحت احتلال PKK-PYD مستقل؟
ويتفق مع ما سبق الباحث ساشا العلو مؤلّف كتاب "الإدارة الذاتية.. مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة" خلال حديث لموقع TRT عربي، يشير فيه إلى أنّ 90 بالمئة من المناهج التي تدرّسها الأكاديمية هي مناهج آيديولوجية تتماشى مع تنظيم PYD الإرهابي، و"فلسفة الأمّة الديمقراطية" المدّعاة، وأنّ 10 بالمئة فقط من المناهج تختص بالمبادئ الحقوقية العامة.
فيما يشير أحد خريجي الأكاديمية لموقع TRT عربي إلى أنّ "كوادر ومحامين من حزب PKK منهم غير سوريين يشرفون على الأكاديمية"، لافتاً إلى أنّ "خريجي الأكاديمية لا يتلقون التأهيل القانوني الكافي لممارسة مهنة القضاء".
يقول حذيفة الأحمد لـTRT عربي، إنّ "نسبة القضاة العرب متدنية جدّاً، فضلاً عن عدم فاعليتهم في القضايا الكبرى".
وعن استخدام القضاء في إرهاب المواطنين يضيف الأحمد أن "اتّهام مسؤولة الصحة في دير الزور سابقاً شيرين المجول بقضايا فساد كان بسبب خلاف مع كوادر PKK الإرهابي المسؤولة عن دير الزور، وهم في ذلك الحين روشن وباران، إذ وُقفت بلا أمر قضائي وبلا أدلة قانونية".
غطاء أمريكي
يرى مجموعة من نشطاء محافظة دير الزور أنّ الوجود الأمريكي في مناطق سيطرة PKK/PYD يشكّل غطاء لكل عملياتهم غير القانونية، وهذا ما يؤكّده مقرَّبون من مسؤولين في المناطق التي يحتلها PKK/PYD الإرهابي حيث أثيرت قضيّة انتهاك التنظيم الإرهابي القضاءَ عدة مرات، مع المبعوث الأمريكي إلى المنطقة ديفد برونشتاين، لكنها لم تلقَ منه آذاناً صاغية، بما يشير إلى موافقة ضمنية أمريكية للانتهاكات التي يرتكبها PYD الإرهابي بوجب "القانون".
ويؤكّد النشطاء أنّ "الولايات المتحدة لم تبحث قط في موضوع استقلالية القضاء أو محاولة إصلاحه، وهذا مؤشّر إلى عدم رغبتهم في أي تغيير داخل السلطة القضائية".
رأي قانوني
يعتبر بعض خبراء القانون ومنظّريه أنّ الأحكام التي تصدر عن الأنظمة التابعة لجماعات خارج الدولة لا تحمل أي صفة رسمية أو قانونية، وبالتالي هي في حكم الباطلة.
يقول المحامي والخبير القانوني حومد حومد لموقع TRTعربي، إنّ "PYD التي تُعتبر واجهة تنظيم PKK الإرهابي في سوريا، منذ كانت تحتل مدينة عفرين قبل طردهم منها لم تطبّق القانون السوري، بل كان لديهم خليط من القوانين التي فسّروها وفق آيديولوجيتهم وحسب ما تقتضيه مصلحة وجودهم، وهذا أمر يجرّ عليهم تبعات قانونية أمام المحاكم الدولية، إذ لا يجوز تطبيق القوانين على أراضي الجمهورية العربية السورية إلا إذا كانت صادرة عنها، والثورة السورية لم تخرج ضدّ المؤسسات بل خرجت لحماية المؤسسات واسترداد القرار فيها".
ويضيف أنّ "القانون السوري موجود قبل تَسلُّم آل الأسد السلطة، وقد صدر عن خبراء وحقوقيين سوريين على مستوى عالٍ من الكفاءة والنزاهة، وبالتالي لا ذريعة لدى PKK/PYD في سوريا لعدم تطبيق القانون السوري، بدليل أنّ هذا القانون هو المعمول به في المناطق المحررة شمالي سوريا في عفرين وأعزاز ومارع والراعي وجرابلس وغيرها، أي القانون السوري الصادر عام 1949"، ما يعني أن تنظيم PKK/PYD الإرهابي لا يعنيه تطبيق القانون بقدر تعزيز سطوته على الأرضي التي يحتلّها.
ويرى أنّ "أي حكم يصدر عن محاكم PKK/PYD الإرهابية هو حكم غير شرعي وغير مُلزِم ولا يُقبَل تطبيقه، وفي حال تطبيقه فليس له أي أثر قانوني، بمعنى أنّ أي قرار بيع لأراضٍ أو ممتلكات يصدر عن محاكم PKK/PYD هو باطل وليس له أي وجود قانوني، وأي قرار جزائي يجرّم أي مواطن سوري، يصدر عن محاكم PKK/PYD هو قرار باطل وغير مقبول، لا من الناحية الدستورية ولا من الناحية القانونية".
ويلفت حومد إلى أنّ الكارثة الحقيقية تكمن في "الأحكام الشرعية" التي تصدر عن محاكم PKK/PYD، على اعتبار أنها مرفوضة قانونياً شكلاً وموضوعاً. ويحذّر من أن "أي حكم صدر عن هذه المحاكم الشرعية ويقضي بتزويج شخصين أو بتطليق امرأة من زوجها الغائب أو المعتقَل أو المتوفَّى هو حكم باطل، وأنّ تلك الأحكام تجرّ على مُصدِريها ومطبّقيها ومنفّذيها عقوبات قانونية بموجب القوانين الدولية والقانون السوري الحالي".
جدير بالذكر أنه على الرغم من أنّ الذراع السورية لتنظيم PKK الإرهابي تختار واجهات مشتركة من العرب والأكراد في الإدارات المتنوعة، فإنّ القرار الحقيقي يكمن بيد كادر PKK الذي يعمل خلف تلك الواجهة. كمثال على ذلك يقول أحد مسؤولي المنظمات في مدينة الرقة إنّ كل المؤسسات لديها كوادر في عملية صناعة القرار، ويضيف أن لجنة التربية على سبيل المثال يرأسها السيد خلف المطر والسيدة زليخة، لكن القرار الحقيقي بيد الكادر آزاد، وهذا ينطبق على القضاء أيضاً.
وفي حين يعتبر المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن استقلال القضاة والمحامين دييغو غارسيا سايان أنّ التدخلات غير المشروعة في مجال العدالة عنيفة، لا سيما عندما يرتكبها أفراد من الجريمة المنظمة مباشرة. والغرض من هذه الطرق هو تأمين أهداف محددة، مثل إغلاق قضية معينة، أو تبرئة شخص معين.
ويرى عديد من المراقبين أن تنظيم PKK/PYD الإرهابي لا يعتبر نفسه معنيّاً بتلك الرؤى الصادرة عن الأمم المتحدة، معتبراً نفسه فوق القانون بحكم سلطة الأمر الواقع التي فرضها مع احتلاله أجزاءً واسعة من شمال شرقيّ سوريا.