تنفيذاً لما تعهَّد به قبل شهرين رئيسهم ميلوراد دوديك بإنشاء جيش "جمهوري صربي" والإنهاء مع فكرة "دولة بوسنية موحدة لم يعد لها وجود". مرّر برلمان صرب البوسنة تصويتاً يلزم الحكومة المحلية على تنظيم الانسحاب من 3 مؤسسات بوسنية مشتركة أساسية، وهي الجيش والنظام القضائي والضرائب، خلال الأشهر الستة القادمة.
في خطوة تهدد سيادة الجمهورية الفدرالية المسلمة على أراضيها. وتمهد لانفصال مواطنيها الصرب، ما يهدد بنشوب أعمال عسكرية على شاكلة تلك التي عاشتها البلاد بين سنوات 1992 و1995، وأودت بحياة أكثر من 300 ألف ضحية، أغلبهم من المدنيين المسلمين.
فيما تعالت تحذيرات دولية من الاستمرار في مسلسل التصعيد السياسي في البلاد، ومطالبات لتعزيز قوات حفظ السلام الدولية هناك. بينما تدعم دول شرق أوروبا وروسيا زعيم صرب البوسنة في خطواته تلك التي تجر البلاد إلى دوامة عنف جديدة.
مساعي الانفصال
في تطور جديد للأحداث بالبوسنة، قرَّر برلمان جمهورية صرب البوسنة يوم الجمعة سحب صلاحيات إدارة البلاد من يد السلطة المركزية بساراييفو. ذلك بتمرير قرار انسحاب المسؤولين الصرب من ثلاث مؤسسات أساسية مشتركة، الجيش والقضاء والضرائب.
وعلق رئيس جمهورية صرب البوسنة، ميلوراد دوديك على التصويت قائلا: "هذه لحظة القفز نحو الحرية"، في إشارة إلى الانفصال عن البوسنة التي وصفها بأنها "كانت تجربة لا أظن أنها ستعيش، لأنها لا تتوافق على أي مقومات للاستمرار". وكشف دوديك أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن عزمه الانسحاب من الوثيقة الدستورية لاتحاد البوسنة والهرسك، متعهداً بتقديم تعديلات عليها "تمكنّ البلاد من نيل حكمها الذاتي الكامل"، على رأسها تأسيس مؤسسة قضائية، وسلطات ضريبية، ومخابرات خاصة لجمهورية صرب البوسنة.
فيما تأتي هذه التحركات وفق ما لوح به دوديك منذ سنوات بانفصال بلاده عن ساراييفو. وتمهد إلى إنهاء خضوع الجمهورية ذات الحكم الذاتي لسيادة حكومة البوسنة والهرسك المركزية، والذي كان أحد ضمانات السلام التي أتى بها اتفاق دايتون الذي أنهى الحرب الدائرة بين عرقيات البلاد ما بين 1992 و1995. ما يهدد بالعودة إلى مستنقع الدم ذاك إذا ما سعى صرب البوسنة إلى فرض انفصالهم كأمر واقع على الحكومة المركزية.
مخاوف جديَّة يعيشها مواطنو البلاد الذين، حسب تقارير، بدأوا في تخزين المواد الغذائية تحسباً لأي أعمال عنف قد تنشب في أي لحظة. علماً أن البوسنة والهرسك تعرف انتشاراً واسعاً للسلاح غير المرخَّص، إذ تحدَّثت تقارير الأمم المتحدة عن نحو 750 قطعة موروثة عن حقبة الحرب الأهلية ما بين 1992 و1995، إضافة إلى تزايد تهريب الأسلحة من صربيا نحوها، الأمر الذي لم تستطِع الحكومة البوسنية رغم جهودها الحدّ منه حتى اليوم.
هذا وشدّد المبعوث الدولي إلى البوسنة،كريستيان شميت في تقريره إلى الأمم المتحدة، على أن "الانقسامات بين الأطراف البوسنية آخذة في الاتساع، وخطر الحرب أكثر جديَّة، في حين أن أي ضعف في الاستجابة إلى هذه الوضعية قد يهدّد اتفاق دايتون، في وقت يتزايد فيه التدخل الخارجي في شؤون البوسنة والهرسك".
ساحة أخرى لصدام روسيا والغرب؟
إثر تقديم المبعوث الدولي إلى البوسنة والهرسك تقريره المذكور إلى الأمم المتحدة، برز جلياً الدعم الروسي لزعيم صرب البوسنة اليميني المتطرف، لمعارضتهم بشدة ما ورد في التقرير وتهديدهم بتعطيل التصويت على تجديد مهامّ القوات الأوروبية بالبوسنة والهرسك "يوروفار" إن لم يسحب شميت اتهاماته للمسؤولين الصرب.
دعم لم يخفيه دوديك، الذي صرح في مقابلة صحفية، أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأنه: "عندما أذهب إلى بوتين لا أكون بحاجة لتقديم مطالب، بل هو الذي يسألني عما يمكن فعله لمساعدتي". مضيفاً أن "الرئيس الروسي لم يخذلني قط عندما قدم لي وعوده، وعلى هذا الأساس ثقتي فيه كبيرة".
يأتي هذا في وقت تعيش فيه العلاقات الروسية الغربية أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة، إثر التصعيد الحاصل في النزاع شرق أوكرانيا وتزايد المخاوف من اجتياح قوات موسكو جارتها الشرقية. يضاف إليه استخدام ألكسندر لوكاشينكو، حليف بوتين البيلاروسي، ورقة المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي، ما اعتبره هذا الأخير "هجوماً هجيناً" على حدوده.
ويرجح مراقبون صلة ما تشهده البوسنة والهرسك بكل ما ذكر، خصوصاً وأن مجموعة "G7" (الاتحاد الأوروبي، أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا) أدانت في بلاغ مشترك لها يوم السبت قرار برلمان صرب البوسنة بالانسحاب من المؤسسات المشتركة، وحذرت حكومة البلاد من "الاستمرار في المسار المميت". كما لوّحت الدول الغربية بفرض عقوبات على الجمهورية الذاتية الحكم، الممنوع رئيسها منذ سنة 2017 من دخول الأراضي الأمريكية.
فيما إضافة إلى الروس تقف بلدان أوروبا الشرقية إلى جانب دوديك وحكومته، على رأسها حكومة المجر التي تربط رئيسها فيكتور أوربان ورئيس صرب البوسنة علاقات وطيدة. ووقّعت الحكومتان اتفاقية تعاون واسعة سنة 2019.
أنقرة تدعم مساعي السلام
في سياق متصل، أعربت الخارجية التركية عن قلقها من قرارات الجمعية الوطنية لجمهورية صرب البوسنة، مؤكدة أن أنقرة عازمة على دعم سيادة ووحدة أراضي البوسنة والهرسك.
وقال الناطق باسم الخارجية التركية، تانجو بيلجيتش، في بيان: "لقد كانت تركيا دائماً في طليعة الجهود المبذولة للحفاظ على السلام وزيادة الازدهار في البلقان، وخاصة في البوسنة والهرسك". داعياً من سيتحملون مسؤولية الإضرار بالسلام والازدهار إلى الالتزام بالإطار الدستوري والقانوني واللجوء إلى الحوار بدلاً من الإجراءات أحادية الجانب.
ولطالما أكدت تركيا عن تشبثها بالسلام والازدهار في البوسنة والهرسك، وحرصها الدائم على استمراره مقابل أي تهديد له ولوحدة البلاد وسيادتها على أراضيها. هذا ما تبرز التحركات الدبلوماسية السريعة والمكثفة لأنقرة لاحتواء التوتر القائم، ودعم الأطراف للتوصل إلى حل له عبر الحوار السلمي.
وبدأت تحرّكات أنقرة عبر لقاء جمع الرئيس طيب رجب أردوغان مع بكر عزت بيغوفيتش، رئيس مجلس الشعوب البوسني (الغرفة الثانية للبرلمان) نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في إسطنبول. بحثا فيه لساعتين سبل احتواء التوتّر القائم في البلاد. وخرج منه بيغوفيتش مشيداً بأن "أردوغان زعيم قوي للغاية ويقيم علاقات جيدة، علينا الاستفادة من ذلك".
وأكد فيه أردوغان أنه "منذ اتفاقية دايتون حتى اليوم تركيا هي الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة كما في الماضي بالبوسنة والهرسك". مضيفاً بالقول: "لا نريد أبداً أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة".