في أعقاب نجاح أذربيجان في تحرير إقليم قره باغ الذي احتلته أرمينيا لنحو 3 عقود، ورغم ما أشعلته المعارك من خلافات بين أرمينيا وتركيا التي قدّمت دعماً سخياً لحليفتها أذربيجان، وبشكل سريع وغير متوقع تجاوبت أرمينيا إيجابياً مع دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتجاوز الخلافات والجلوس على طاولة الحوار لفتح صفحة جديدة.
فبعد 3 عقود تقريباً من انقطاع العلاقات وغلق الحدود بينهما بسبب احتلال يريفان جزء من الأراضي الأذربيجانية، الملف الذي يُعدّ الأبرز بين ملفات الخلاف بين البلدين بعد العداء التاريخي بينهما، يبدو أن تركيا وأرمينيا باتتا مستعدتين أخيراً لتجاوز خلافاتهما وإعادة إحياء مشاريع بناء علاقاتهما التي توقفت منذ الجهود الدبلوماسية الأخيرة عام 2009 والتي عُرفت وقتها بـ"البروتوكولات".
فهل بات الوقت مناسباً لتجاوز الخلافات والبدء بتطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، لا سيما بعد انتهاء النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم قرة باغ؟ فبينما يرى خبراء مراقبون للأوضاع في منطقة القوقاز أن احتمالية إعادة العلاقات هذه المرة أقرب من أي وقت مضى بين كلٍّ من أرمينيا وتركيا فضلاً عن أذربيجان، يتساءل مؤرخون وسياسيون عن مدى قدرة الأطراف الثلاثة على تجاوز الإرث التاريخي الثقيل وتغليب المصالح الاقتصادية التي ستنتج بعد إعادة إحياء خطوط النقل في المنطقة.
رسائل إيجابية
نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "رسالة سلام إلى الشعب الأرميني"، قائلاً: "سنفتح أبوابنا الموصدة أمام أرمينيا إن اتخذت خطوات إيجابية"، وأعرب أردوغان عن استعداد تركيا للتطبيع التدريجي مع أرمينيا في حال أقدمت حكومة البلد الأخير على انتهاج مواقف واقعية، وابتعدت عن كيل الاتهامات الأحادية.
ورداً على دعوة أردوغان، أعرب رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، عن إمكانية تطبيع العلاقات بين بلاده وتركيا. وأشار باشينيان إلى أن يريفان (عاصمة أرمينيا) تلقَّت "بوادر إيجابية علناً" من تركيا. وأضاف باشينيان قائلاً: "سنُقيِّم هذه البوادر الإيجابية ونردّ عليها بمثلها".
ويوم الاثنين، قال وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو الذي تحدث في البرلمان التركي خلال مناقشات الميزانية العامة: "سنُعيّن ممثلين مشتركين في إطار خطوات التطبيع مع أرمينيا. وسنبدأ رحلات الطيران إلى يريفان. كما وسنعمل مع أذربيجان في كل خطوة".
ومن المقرر أن يجتمع اليوم زعماء أرمينيا وأذربيجان مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل في بروكسل قبل قمة الشراكة الشرقية. حيث سيُجري ميشال محادثات منفصلة مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، يليها لقاء مشترك مع كليهما.
هل يطغى الإرث التاريخي؟
يُعتبر ملف "مذابح الأرمن" من أبرز ملفات الخلاف بين أنقرة ويريفان، فبينما تُصر أرمينيا على وصف الصراع الذي جرى على حدود الدولة العثمانية الشرقية إبّان الحرب العالمية الأولى بمصطلح "الإبادة الجماعية"، تعتبر تركيا ما جرى في تلك الفترة مأساة جماعية للطرفين تسببت بسقوط مئات الآلاف من الجانبيين وتطالب بترك هذا الملف للمؤرخين حيث أعلنت أكثر من مرة استعدادها لفتح الأرشيف العثماني بشكل كامل للمؤرخين.
فيما يعتبر ملف احتلال أرمينيا لجزء من الأراضي الأذربيجانية بمثابة الثقل التاريخي الثاني بين البلدين من حيث الحجم والتأثير، فبعد أن اعترفت تركيا باستقلال أرمينيا عام 1991 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، أغلقت عام 1993 الحدود مع أرمينيا من جانب واحد، وذلك رداً على احتلال يريفان أراضٍ في إقليم ناغوزي قره باغ الأذربيجاني.
وعلى الرغم من الخلاف التاريخي وثقل ملفاته بين الطرفين، شهدت الأشهر الأخيرة تصريحات علانية سواء من أنقرة أو يريفان تدعو لتجاوز الخلافات وتطبيع العلاقات في ظل احترام وحدة أراضي البلدين، الأمر الذي يعتبره أرمن الشتات لهجة استفزازية، نظراً لأنهم يطالبون تركيا على الدوام بتسليم جزء من أراضيها الشرقية من أجل إقامة ما يطلقون عليه "أرمينيا الغربية".
هل تُغلّب المصالح الاقتصادية؟
على صعيد آخر، يرى رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أنّ في التطبيع فرصة لفك عزلة أرمينيا في المنطقة، بالإضافة للفرص الاقتصادية العظيمة التي من شأنها أن تحقق النمو والازدهار الاقتصادي لأرمينيا من خلال إدماجها في مشاريع البنى التحتية واللوجستية التي ستجعل من منطقة القوقاز وتركيا مركزاً تجارياً وصناعياً مهماً للغاية في عالم ما بعد كورونا.
وعقب دعوة أردوغان الأخيرة، صرح باشينيان قائلاً: "نحن على استعداد لإجراء مشاورات من أجل تطبيع العلاقات مع تركيا وإعادة إحياء النقل البريّ وخطّ السكك الحديدية، نحن مستعدون لمثل هذا اللقاء، ويمكننا توسيعه أكثر أيضاً". ونوّه إلى أن المشاورات المذكورة يمكن أن توفّر روابط إقليمية في جميع الاتجاهات.
خصوصاً وأن الأشهر الأخيرة شهدت نقاشات موسعة حول ممر "زنغازور" البريّ الذي سيربط تركيا بأذربيجان وسيكون بمثابة بوابة تركيا إلى القوقاز ووسط آسيا، ومن المخطط أن يمرّ الخط البريّ بالقرب من الحدود الأرمنية عند قدومه إلى تركيا، ما سيُتيح لأرمينيا الحصول على فرصة للاتصال بروسيا وإيران في حال قررت المشاركة في هذا المشروع الواعد والخروج من العزلة نحو الرخاء.