أظهر تقريرٌ لشبكة TRT World التركية، يستعرض وثائق جماعات الضغط الأميركية، أن العشرات من شركات الضغط لم تنهِ علاقاتها بالسعودية في أعقاب مقتل الصحفي جمال خاشقجي رغم الإدانة العالمية لعملية اغتياله.
وتستمر هذه الشركات في الحصول على ملايين الدولارات من المملكة، بينما تمنح تبرعات بملايين الدولارات للسياسيين في الولايات المتحدة، إذ يقول بعض المراقبين إنها تُستَخدَم لـ"شراء" صمتهم.
باتت هذه العلاقات محلَّ تساؤلٍ حالياً.
وأفادت تقارير بأن صحيفة The Washington Post الأميركية، التي عمل لديها خاشقجي ككاتب مقالاتٍ خلال الأشهر التي سبقت واقعة مقتله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، أنها ضغطت على العديد من كُتَّابها لإنهاء جهود الضغط التي يمارسونها لصالح السعودية.
كان كارتر إسكو، مؤسس شركة Glover Park Group وإد روجرز، رئيس شركة BGR Group، قد تلقيا هذه الإنذارات، وأنهت الشركتان علاقاتهما بالسعودية، رغم أن إسكو قال إن شركة Glover Park Group اتخذت هذا القرار بشكلٍ مستقل.
ولا تزال هناك 36 شركة تمارس بقوةٍ أنشطة ضغط لصالح السعودية في الولايات المتحدة، وفقاً لوثائق صادرة عن قاعدة بيانات قانون تسجيل الوكلاء الأجانب التابع لوزارة العدل الأميركية.
قال جورجيو كافيرو، مؤسس ورئيس شركة Gulf State Analytics "استثمر السعوديون عشرات الملايين من الدولارات في جماعات الضغط بواشنطن منذ أن دَخَلَ ترمب المكتب البيضاوي. يتعرَّض حالياً المُشرِّعون ومسؤولو البيت الأبيض، الذين تربطهم علاقات بهذه الجماعات، لضغوطٍ بسبب الغضب المثار بشأن مقتل خاشقجي".
بلغت قيمة العقود والتبرعات السياسية المصاحبة لها، بما فيها أنشطة الضغط لصالح شركة النفط والغاز الطبيعي السعودية أرامكو، حوالي 13.8 مليون دولار في 2017، وفقاً لتقارير قانون تسجيل الوكلاء الأجانب، الذي أطلعت عليه شبكة TRT World وأكد عليه Center for Responsive Politics، وهو مركزٌ في واشنطن يتتبَّع مسار الأموال التي تُنفَق لأغراضٍ سياسية.
تضم هذه الأموال أكثر من 2.3 مليون دولار لصالح حملات سياسية في 2016 و2017.
وتُظهِر وثائق قانون تسجيل الوكلاء الأجانب أن السعودية أنفقت ما يقرب من 6 ملايين دولار في 2018، لكن هذا الرقم مُرشَّح للزيادة، بينما تواصل الشركات تقديم تقاريرها لوزارة العدل الأميركية.
التحكم في الصورة
قال بِن فريمان، مدير مبادرة شفافية النفوذ الأجنبي بمركز السياسات الدولية، في حوارٍ له مع The Libertarian Institute، إن قدراً قليلاً من المال قد "يشتري صمت" الساسة الأميركيين، وهو ما حدث في "الأسبوع الأول" من واقعة قتل خاشقجي.
وتابع فريمان: "لم يكن الناس يتحدَّثون علناً عن هذا الأمر بشكلٍ مُكثَّف"، وأضاف: "لم يكن هناك أحدٌ في الكونغرس يتحدَّث عن هذا الموضوع طيلة أسبوعٍ تقريباً بعد اختفاء خاشقجي، أعتقد أن هذا دليلٌ على مدى قوة جماعات الضغط هذه".
ويشمل عمل شركات الضغط هذه عدداً واسعاً من الأنشطة، بما فيها نشر صورةٍ إيجابية عن جهود الحرب السعودية في اليمن، التي تقول عنها الأمم المتحدة إنها أسوأ كارثة إنسانية في 2018، وممارسة ضغوطٍ ضد أي تشريعٍ يُشكِّل خطراً على وضع السعودية بصفتها المُصدِّر الرئيسي للنفط إلى الولايات المتحدة.
ولطالما أنفقت السعودية ملايين الدولارات للسيطرة على الرأي العام والتأثير على المشرعين في العاصمة الأميركية، لكن هذه الأموال زادت بمقدار ثلاثة أضعاف خلال السنة الأولى لرئاسة ترمب، في الوقت الذي استتبت فيه الأمور في السعودية تحت سيطرة الحاكم الفعلي للبلاد وولي العهد محمد بن سلمان.
عُيِّن محمد بن سلمان ولياً للعهد في يونيو/حزيران 2017. بموجب إرشاداته، تبنت المملكة رؤيةً اقتصادية "مناهضة للفساد"، تأمل في الابتعاد عن الاعتماد على النفط، ويدفع ابن سلمان أيضاً لطرح تفسيرٍ "حديث" للإسلام؛ إذ سَمَحَ للنساء بقيادة السيارات وفَتَحَ دور سينما لأول مرة في البلاد.
لكنَّ كثيرين شكَّكوا في منهجه هذا، و خلال الأسابيع السابقة لرفع الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات، سُجِنَ العديدُ من النشطاء الذين كانوا يقودون حملاتٍ لمنح النساء حق قيادة السيارات.
أدّت حملته القمعية "المناهضة للفساد" إلى تحويل فندق ريتز كارلتون الفاخر في الرياض إلى مركز احتجازٍ للنخبة السعودية المُتَّهَمة بالفساد.
وذكرت تقارير أن اللواء علي بن عبدالله آل جراش القحطاني توفي خلال محبسه في فندق ريتز إثر التعذيب.
وتمارس معظم جماعات الضغط السعودية أنشطة التأثير سرّاً، بينما تمارس بعض هذه الجماعات أنشطتها علناً.
يمتدح فهد الناظر، مستشار للسفارة السعودية في الولايات المتحدة وكاتب المقالات لدى صحيفة Arab News السعودية والزميل المتخصص في الشؤون الدولية لدى المجلس القومي للعلاقات الأميركية العربية، القيادة السعودية كثيراً على حسابه الشخصي في موقع تويتر.
بعد إعلان مقتل خاشقجي، نَشَرَ الناظر تغريدةً بها البيان الرسمي للحكومة السعودية، وصوراً لابن سلمان وهو يقابل ابن الصحفي السعودي المقتول، وهي خطوةٌ أثارت غضب كثيرين، يفترضون أن ولي العهد كان يعلم بشأن عملية قتل خاشقجي قبل حدوثها.
وينشر الناظر، بوتيرةٍ منتظمة، تغريداتٍ تحاول تحسين صورة الحرب السعودية في اليمن، ويكتب مقالاتٍ عن جهود ابن سلمان في "مكافحة الإرهاب".
ويحصل الناظر على راتب قدره 70 ألف دولار في الشهر من السفارة السعودية في الولايات المتحدة، وفقاً لعقد عمله، وتُظهِر بيانات قانون تسجيل الوكلاء الأجانب أن الناظر عمل مع السفارة السعودية "لتحسين صورة السعودية في الولايات المتحدة".
علاوة على ذلك، أُدرِج حسابُه الشخصي على موقع تويتر، وحواراته الإعلامية، ومحادثاته في المراكز البحثية كأنشطةٍ يمكن أن تستفيد منها السعودية.
لم تتمكَّن شبكة TRT World من التواصل مع الناظر للحصول على تعليقه قبل توقيت نشر هذا التقرير.
خطوات معادية لقطر
تُعدُّ لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية أداةً أخرى قويةً لتحسين صورة السعودية في الولايات المتحدة.
سجَّلَت لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية نفسها في قانون تسجيل الوكلاء الأجانب في أغسطس/آب 2017، لكن أنشطتها ترجع إلى يوليو/تموز 2017، مباشرةً بعد أن شَرَعَ التحالف الرباعي بقيادة السعودية، والذي يشمل أيضاً البحرين والإمارات ومصر، في فرض حصارٍ كامل على قطر بعد اتهامهم لها بدعم الجماعات الإرهابية.ونفت قطر هذه الاتهامات.
وتُظهر تقاريرُ لشبكة الجزيرة أن لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية أنفقت مليون و380 ألف دولار على إعلاناتٍ تلفزيونيةٍ معاديةٍ لقطر في واشنطن في يوليو/تموز.
وتُظهِر وثائق قانون تسجيل الوكلاء الأجانب أن لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية لديها خططٌ أكبر، تشمل شنَّ حملة تتَّهم قطر بالعمل مع كوريا الشمالية كـ"شركاء في الإرهاب"، في مسعىً واضح إلى التشكيك في أحقية قطر في استضافة كأس العالم في 2022.
خفتت أنشطة لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية إلى حدٍّ كبير في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2017 إلى مارس/آذار 2018، عندما أصبح مجلس العلاقات العامة التابع لرابطة العالم الإسلامي.، وفقاً لبيانات القانون الأميركي.
ورابطة العالم الإسلامي مُمَوَّلةٌ بشكلٍ كامل من قبل السعودية، وهي تنشر المذهب الوهّابي، وهو نسخةٌ مُحافِظةٌ عن الإسلام، في مختلف أنحاء العالم.
ويُقال عن رابطة العالم الإسلامي إنها واحدةٌ من بين "العديد" من المنظمات السعودية الحكومية وغير الحكومية التي كان لها تأثيرٌ، سواءٌ كان مقصوداً أم لا، في انتشار التطرُّف الديني على مستوى العالم، وفقاً لتقرير صادر عن مكتب الحكومة الأميركية للمحاسبة في 2005.
رغم المآخذ السابقة للحكومة الأميركية بشأن نشاط الرابطة، فقد نجحت لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية في تنظيم لقاءاتٍ تجمع بين مسؤولي رابطة العالم الإسلامي ووزارة الخارجية الأميركية،بمن فيهم سام براونباك، السفير الأميركي لشؤون الحريات الدينية الدولية المُعيَّن من قبل ترمب.
وفقاً لمنظمة Center For Responsive Politics، أنفقت لجنة العلاقات العامة الأميركية السعودية أكثر من 2.5 مليون دولار في أنشطة ضغط خلال 2017.
هل سيستمر الصمت؟
لن تصبح التقارير بشأن أنشطة جماعات الضغط منذ بداية اختفاء خاشقجي معلنةً حتى أشهر مقبلة، إذ أن قانون تسجيل الوكلاء الأجانب يقضي بأن تقدم هذه الجماعات وثائقها، التي تشمل التبرعات ورسائل البريد الإلكتروني والزيارات، كل ستة أشهر.
لكن لا يزال هناك دليلٌ يشير إلى أن السعودية تواصل تاريخها في إنفاق التبرعات بكثافةٍ في واشنطن، وتظهر الوثائق الحالية أن السعودية أنفقت حوالي 6 مليون دولار في 2018.
وفقاً لمعايير فريمان، هذه الأموال كفيلةٌ بمواصلة شراء الصمت في واشنطن، ويقول كافيرو، من شركة Gulf Analyst، إن التدقيق في علاقات وأنشطة جماعات الضغط سيتوقف في نهاية المطاف.
يقول كافيرو: "تُسلَّط الأضواء حالياً على الرياض، لكن استمرار هذا الغضب والضغط لا يزال قيد الاختبار، من الواضح أن السعوديين لديهم حلفاء مقربون في واشنطن، يأملون أن تزول هذه العاصفة، وأن يقل خطر النظر إليهم باعتبارهم مقربين من القيادة السعودية أكثر من اللازم بمرور الوقت".