خلال قمة الناتو التي انعقدت يوم الاثنين في العاصمة البلجيكية بروكسل، عرضت تركيا إبقاء قواتها العسكرية في أفغانستان بعد انسحاب قوات حلف الناتو في سبتمبر/أيلول المقبل، واقترحت أنقرة مواصلة أعمالها في حماية وإدارة مطار العاصمة كابل في حال حصولها على دعم دبلوماسي ولوجستي أمريكي.
وعلى الرغم من أن تركيا جزء أساسي من قوات حلف الناتو في أفغانستان منذ قرابة 19 عاماً، فإنها لم تشارك مطلقاً في العمليات العسكرية القتالية التي نفذها الحلف، واقتصر دور القوات التركية على تقديم خدمات حماية مطار كابل وإدارته، وتدريب قوى الأمن والشرطة الأفغانية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الإنسانية للشعب الأفغاني.
ويذكر أن تركيا وأفغانستان تحتفلان هذا العام بالذكرى المئوية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتعتبر أفغانستان الدولة الثانية بعد الاتحاد السوفييتي التي تعترف رسمياً بحكومة أنقرة، وذلك بعد توقيع البلدين على معاهدة التحالف الموقعة في موسكو في الأول من شهر مارس/آذار 1921.
القوات التركية في أفغانستان
كان للعلاقات الدبلوماسية الممتدة لقرن من الزمن بين الدولتين التركية والأفغانية، فضلاً عن القواسم التاريخية والدينية المشتركة التي يتقاسمها الشعبان التركي والأفغاني، بالإضافة إلى المكانة الخاصة التي يشغلها الشعب الأفغاني في قلوب الأمة التركية بسبب الدعم الذي قدمه خلال حرب الاستقلال التركية، وكذلك التقدير الذي يكنه الأفغان لتركيا بفضل مساعدتهم بالنهوض بأفغانستان وتطويرها خلال فترة حكم الملك الأفغاني أمان الله خان، دور بارز في عدم رفض الشعب والحكومة الأفغانية للدور الهام الذي تقوم به تركيا على الأراضي الأفغانية منذ عقدين.
وتشارك تركيا برفقة الناتو في العمليات التي يقوم بها الحلف في أفغانستان منذ بدئها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، ويذكر أن مشاركة القوات التركية اقتصرت على أعمال الحماية والتدريب ولم تمتد للمشاركة في الأعمال القتالية، ولم يتكبد الجيش التركي خسائر في الأرواح أو المعدات طوال فترة وجوده في أفغانستان، حيث سلكت تركيا طريق العلاقات التاريخية والقواسم المشتركة مع الشعب الأفغاني خلال سنوات وجودها الـ19 على الأراضي الأفغانية.
ولدى تركيا اليوم أكثر من 500 جندي في أفغانستان ضمن مهمة حلف الناتو، لم يطلق جنودها أيه رصاصة باتجاه المواطنين الأفغان طوال فترة وجودهم هناك، وشملت مهام القوات التركية في أفغانستان: أعمال تدريب قوات الأمن الأفغانية وتقديم الاستشارات العسكرية لهم، حيث تم تدريب أكثر من 5 آلاف جندي أفغاني ونحو 10 آلاف شرطي حتى اليوم، فضلاً عن توفير الحماية لمطار كابل والمشاركة في إدارة عملياته، بالإضافة إلى تقديم الحماية الأمنية للجمعيات الخيرية التركية والعالمية في أثناء تقديمها للخدمات وتوزيعهم للمساعدات الإنسانية على الأراضي الأفغانية.
المساعدات التركية لأفغانستان
لم ترسل تركيا قواتها العسكرية إلى أفغانستان من أجل طموحات استعمارية، بل على العكس من ذلك، فقد صرح صناع القرار الأتراك على الدوام بأن أفغانستان القوية والمستقرة هي في مصلحة تركيا بالأساس، ولهذا السبب ضخت تركيا خلال فترة وجودها في أفغانستان أكبر قدر من المساعدات الإنسانية والتنموية.
وفي هذا السياق، شاركت تركيا وما زالت تشارك من خلال مؤسساتها الخيرية أمثال "وكالة التعاون والتنسيق التركية" (TIKA) ومؤسسة "معارف"، في تنفيذ أنشطة إغاثية مختلفة في مجالات مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، وبين عامي 2018 و2020 قدمت تركيا 150 مليون دولار للمساعدات التنموية في أفغانستان.
وبشكل سنوي تقدم تركيا من خلال رئاسة شؤون أتراك المهجر والمجتمعات ذات القربى (YTB) الحكومية، مئات المنح الدراسية للطلبة الأفغان الراغبين في إكمال دراستهم في جامعات ومعاهد تركيا، وتهدف تركيا من خلال هذه الخطوة ليس فقط إلى مساعدة أفغانستان والنهوض بها وبشعبها، بل أيضاً إلى بناء مزيد من جسور التواصل بين الشعبين التركي والأفغاني.
وعلاوة على ذلك، ساهمت أنقرة بنشاط في العمليات التي تم تنفيذها لإحلال سلام دائم في أفغانستان، وأخذت زمام المبادرة في العديد من الأمور التي تهدف إلى إحداث مصالحة دائمة وحقيقية بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، وفي هذا الإطار، اجتمعت تركيا مع أفغانستان وباكستان في المرحلة الأولى وأنشأت "مجموعة الحوار الثلاثي" في عام 2007، وفي عام 2011 باشرت مرحلة "إسطنبول قلب آسيا"، فضلاً عن دعم أنقرة لعملية التفاوض بين حكومة كابل وطالبان في الدوحة.
علاقات تاريخية متجذرة
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الجمهورية التركية وأفغانستان بعد الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة، وكان من أولى القرارات التي اتخذتها حكومة أنقرة التي قادت حرب التحرير والاستقلال ضد قوى الاستعمار الغربي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، فتح مكتب تمثيلي في كابل، وذلك بموجب اتفاقية التحالف التركي الأفغاني لعام 1921 الموقعة في موسكو، بالإضافة إلى إرسال ضباط أتراك من أجل تدريب القوات الأفغانية في تلك الفترة، على الرغم من الحرب الدائرة في عموم الجمهورية التركية التي كانت تخضع للاحتلال.
وخلال حرب التحرير والاستقلال التركية، قام الملك أمان الله خان بالاحتجاج على مساعي الدول الغربية لاحتلال الأراضي التركية، ولم يكتف بتقديم المساعدات المالية، بل فتح المجال أمام الأفغان للذهاب والقتال إلى جانب الأتراك في حربهم للاستعمار.
وفي العقود التالية، أرسلت تركيا الكثير من الأطباء والضباط والأساتذة والمهندسين للمساعدة في نهضة أفغانستان، فضلاً عن المساعدات التي قدمتها تركيا في إنشاء كلّ من جامعة كابل والأكاديمية العسكرية الأفغانية وكذلك المعهد العالي للموسيقى، ولعبت المساعدات التركية لغاية ستينيات القرن الماضي دوراً مهماً في تطوير مؤسسات الدولة الأساسية الإدارية والعسكرية والثقافية والتعليم والصحة في هذا البلد.
وفي مايو/أيار 1928 قام ملك أفغانستان أمان الله خان بأول زيارة رسمية لرئيس دولة أجنبية إلى تركيا، التقى خلالها مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وجرى التوقيع على أول اتفاقية تعاون فني مع أفغانستان خلال هذه الزيارة، واستمرت علاقات الصداقة والتعاون الوثيقة حتى أصبحت أفغانستان تحت وصاية الاتحاد السوفييتي، وقبل حدوث ذلك، قام رئيس وزراء تركيا الأسبق عدنان مندريس بزيارة كابل في عام 1956، بينما قام الرئيس التركي جلال بايار بزيارة استغرقت 10 أيام إلى أفغانستان في عام 1958.