شكَّلت تونس، مثل جاراتها من الدول الواقعة على سواحل البحر المتوسط، بوابةً للمهاجرين قاصدي دول القارة الأوروبية هرباً من المآزق التي يواجهونها في بلدانهم من حروب أو أزمات اقتصادية وسياسية.
وتُعد تونس بلد عبور رئيسي في المنطقة للمهاجرين، الذين يغادرون إلى إيطاليا على متن قوارب ضمن موجات الهجرة غير الشرعية، إذ وصل ما يقارب 49 ألف شخص إلى السواحل الإيطالية منذ بداية العالم الحالي حتى مايو/أيار الماضي.
وكانت تونس طرفاً فاعلاً في مناقشات الاتحاد الأوروبي بخصوص حلّ مسألة الهجرة التي بقيت على طاولة المناقشات لزمن طويل. واتفقت حكومات الاتحاد الأوروبي على خطوات لدعم تونس في ملف الهجرة والاقتصاد.
المال مقابل ضبط الهجرة
زارت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في 11 من يونيو/حزيران الحالي، تونس رفقة رئيسَي وزراء هولندا وإيطاليا، وتعهدت برصد 900 مليون يورو لدعم الاقتصاد التونسي و150 مليون يورو إضافية لدعم الميزانية، وفق ما نقلته وكالة "فرانس برس".
واقترحت فون دير لاين على الرئيس التونسي، قيس سعيّد، تعزيز الشراكة مع تونس عن طريق إطلاق برامج تعاون تتضمّن خمس نقاط أساسية، تشمل: تطوير الاقتصاد التونسي، ودعم التبادل التجاري والاستثمار، إضافةً إلى دعم القطاع الرقمي ومشاريع الطاقة النظيفة والمتجدّدة، وحماية الحدود للحدّ من تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا.
وصرّحت بالقول: "من مصلحتنا المشتركة كسر نموذج عمل مهربي البشر. أمر مروِّع أن نرى كيف يخاطرون عمداً بالأرواح البشرية من أجل الربح"، مؤكدةً أهمية التعاون في مجال مكافحة عصابات تهريب البشر وإدارة الحدود والبحث والإنقاذ، عبر تمويل بقيمة 100 مليون يورو هذا العام.
وأضافت: "هدفنا هو أن تكون لدينا مقاربة شاملة لسياسة الهجرة تحترم حقوق الإنسان".
ورغم الانتقادات الأوروبية الكثيرة التي توجَّه إلى تونس في ملف حقوق الإنسان والحريّات في البلاد، وذلك عبر "تقييد الحريات المدنية وسجن ناشطي المعارضة"، أشارت رئيسة المفوضية إلى أن الاتحاد الأوروبي هو "الشريك التجاري الأول والمستثمر الأول" في تونس، وذكّرت بأن أوروبا "لطالما دعمت مسار تونس الديمقراطي منذ 2011 ومنذ الثورة الشعبية التي أطاحت بزين العابدين بن علي، وهو طريق طويل وشاقّ".
اتفاق أوروبي جديد ومفاوضات مع دول أخرى
سبق زيارة المفوضية الأوروبية إلى تونس والتطرق إلى ملف الهجرة عبر المتوسط، اجتماع موسع لقادة الاتحاد الأوروبي، أسفر عن التوقيع على اتفاقية جديدة تضمنت نقاطاً مهمة بخصوص ملف الهجرة.
كان ذلك الاجتماع تمهيداً توصَّل فيه وزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي إلى صيغة شراكة ممكنة بين دول الاتحاد، تقتضي وجود تضامن بين الدول فيما يتعلق باستقبال المهاجرين، وتسريع البت في طلبات لجوء عدد من المهاجرين الموجودين عند الحدود، كما تضمن الاتفاق تقديم مبلغ مالي للدول المستضيفة عن كل لاجئ يُوطَّن.
اعترضت دول حوض المتوسط، مثل إيطاليا واليونان، على المقترحات المطروحة في الاتفاق لأنها وجدت أنه يحمِّلها العبء الأكبر في استقبال اللاجئين، كونها الدول التي يدخل المهاجرون عبرها إلى الاتحاد الأوروبي.
وحول هذا أشار وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو بيانتيدوزي، في مقابلة نشرتها صحيفة "كورييري ديلا سيرا"، إلى أنهم كانوا بحاجة إلى تمرير اتفاق يسمح بإعادة المهاجر إلى ما سماها "البلدان الثالثة"، ولذلك فقد استخدمت إيطاليا قوتها لتضغط على المهاجرين الذين لم يحصلوا على حق اللجوء للتوجه إلى بلدان "آمنة" يمكنهم أن يمروا عبرها، حتى في غياب صلة محددة بين المهاجر و"البلد الثالث".
ويرى مراقبون أن الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي زعم رفضه تنفيذ مهام حراسة الحدود، لم يمانع جعل تونس واحدة من الدول الثالثة التي عناها وزير الداخلية الإيطالي، وقد يشمل ذلك استقبال اللاجئين الذين ترفض دول مثل إيطاليا استقبالهم في مقابل تسهيلات مالية معينة أو وساطات لدى الدول المموِّلة التي قد تؤرقها ملاءة تونس المالية وعدم قدرتها على سد الديون.
ويرى الدكتور أحمد القديدي، الصحفي والسفير السابق لتونس، وفق ما صرح به لـTRT عربي، أن "ما حصل في ذلك الاجتماع يعد خديعة كبرى للتونسيين، وأن قبول سعيّد بأن تكون بلاده مراكز تجميع للاجئين أمر غير وارد، ولكنه تمكن من تمرير الاتفاق بشكل سرِّي مع رئيسة المفوضية الأوروبية لتكون مكاناً لتوطين اللاجئين الذين لا تقبل بهم أوروبا، التي استغلت الوضع الاقتصادي وهشاشة النظام التونسي واستبداد قيس سعيد بالسلطة".
وأضاف القديدي: "إن تخوف أوروبا من وجود قوى مدنية تونسية تؤسس لنظام ديمقراطي، يدفعها إلى التغاضي عن استحواذ سعيد على السلطة، وإن ذلك يتوافق مع سلوك أوروبا التي حاولت تغطية عنصريتها بحجة الإسلاموفوبيا، وتغذية الفكر اليميني لدى شعوبها".
دولة مثقلة بالديون وتبادل أوراق ومصالح
تتفاوض تونس اليوم للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي لحل أزمتها الاقتصادية، مستغلةً موقعها الجغرافي من أجل الضغط لتمرير مصالحها لدى الاتحاد الأوروبي. وذكرت المفوضية أن الأمر يتعلق بقرض أوروبي جديد يَعقب قرضاً من صندوق النقد الدولي ما زال التفاوض بشأنه جارياً.
ووفق ما تداولته الأنباء، فقد ربط صندوق النقد الدولي منح تونس القرض بمجموعة من الإصلاحات، إلا أن الوساطة التي أجرتها رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، بين الطرفين ربما أتت بثمارها، الأمر الذي ينعكس على مصلحة بلادها التي تعد نقطة وصول رئيسية للمهاجرين الذين يَعبرون البحر المتوسط من تونس؛ فحسب تصريحها فإن الاتحاد الأوروبي وتونس وقّعا بالفعل إعلاناً مشتركاً أشادت به بوصفه خطوة مهمة "نحو إقامة شراكة حقيقية".
خطاب كراهية واحتقان شعبي
لعبت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تونس دوراً مهماً في عقد الاتفاقيات الأخيرة. وهي أوضاع يرى فيها الكثير من الخبراء السبب وراء قبول أوروبا التساهل مع إجراءات قيس سعيد ضد الديمقراطية والحريات العامة. وكان الرئيس قيس سعيد قد حمَّل في خطابه في مدينة صفاقس في فبراير/شباط الماضي "جحافل المهاجرين" من إفريقيا جنوب الصحراء، مسؤولية ارتفاع معدل الجريمة في البلاد.
وحذر في الوقت نفسه من أن الهجرة تشكل تهديداً ديمغرافياً في تونس، وهو ما جعل المنظمات الحقوقية التونسية تتهمه بخطاب الكراهية، الأمر الذي تسبب في ازدياد هجمات العنصرية ضد المهاجرين الذين فضّلوا الفرار من البلاد باتجاه أوروبا.