وتسود حالة من الضبابية حول شكل السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي الجديد ترمب كما يوضح عدد من الخبراء والمراقبين، ما يجعل التعيينات الرئاسية مؤشراً هاماً على طبيعة الشخصيات التي ستقود السياسة الأمريكية في الفترة المقبلة.
وفي الشرق الأوسط يعد العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان من أهم وأبرز الملفات التي يجب على إدارة الرئيس ترمب التعامل معها، ورشح ترمب مجموعة من الشخصيات الأمريكية لشغل مناصب تنفيذية مرتبطة بالسياسة الخارجية (تنتظر موافقة الكونغرس حتى تصبح نافذة)، من أهمها وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، ومدير المخابرات المركزية (CİA)، ووزير الدفاع، بالإضافة إلى مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط.
تنوعت خلفيات وتجارب الشخصيات التي عيّنها ترمب في هذه المناصب، وجاءت نسبة معتبرة من هؤلاء من خلفيات جمهورية محافظة، واشترك أغلبهم في الموقف الداعم لإسرائيل في المنطقة والمتشدد في التعامل مع قضايا المنطقة وتحديداً الملف النووي الإيراني.
المناصب السياسية
عيّن الرئيس ترمب السيناتور عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو في منصب وزير الخارجية. تعود أصول روبيو إلى كوبا، وينتمي إلى الحزب الجمهوري، وأصبح عضواً في الكونغرس لأول مرة عام 2011، وسبق أن ترشح في مواجهة ترمب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عام 2016، قبل أن تتحسن علاقتهم لاحقاً.
ويُعرف روبيو بمواقفه المؤيدة لإسرائيل، فخلال لقاء له مع قناة CNN الأمريكية في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، وصف الفلسطينيين بـ "المتوحشين"، قائلاً: "لا أعتقد أن هناك أي طريقة يمكن أن نتوقع بها من إسرائيل أن تتعايش أو تجد مخرجاً دبلوماسياً مع هؤلاء المتوحشين... لا يمكنك التعايش معهم. يجب القضاء عليهم".
وفي شهر أغسطس/آب الماضي انتقد روبيو إدارة بايدن وموقفها من الحرب الإسرائيلية على غزة التي وصفها بـ"المستبصرة والعادلة"، ودعا إلى الامتناع عن تقييد يد إسرائيل في حربها على الفلسطينيين وغزة، كما انتقد روبيو في رسالته العقوبات الأمريكية على نشطاء اليمن المتطرف الإسرائيلي قائلاً: "تمتلك إسرائيل نظاماً قضائياً فعالاً وقادراً تماماً على مقاضاة الجرائم المرتكبة داخل حدودها. وبدلاً من السماح لإسرائيل بالقيام بواجبها في التحقيق ومقاضاة أي جرائم مزعومة، تواصل هذه الإدارة إقحام نفسها، فيما يمكن لكثيرين أن يفترضوا فقط أنه استرضاء للتقدميين في الحزب".
الموقف المتشدد الذي يتبناه وزير الخارجية يمتد كذلك إلى إيران التي قال إن إدارة الرئيس ترمب المقبلة ستكون "واضحة للغاية وحازمة للغاية" في التعامل مع إيران، واتهم البيت الأبيض بقيادة بايدن بمعاملة طهران مثل "الدبلوماسيين البلجيكيين في الأمم المتحدة".
وعيّن ترمب حاكم ولاية أركنساس السابق مايك هاكابي سفيراً لدى إسرائيل، وهو إحدى الشخصيات الإنجيلية المحافظة التي زارت إسرائيل في أكثر من مناسبة ونظم رحلات دينية إلى هناك، عبّر خلالها عن مواقف عنصرية ضد الشعب الفلسطيني، وصلت إلى إنكار وجوده أساساً، كما صرح عام 2008 قائلاً إن الهوية الفلسطينية كانت "أداة سياسية لمحاولة إجبار إسرائيل على الابتعاد عن الأرض".
وعلى خلاف الآخرين الذين جاؤوا من خلفيات سياسية، عيّن ترمب صديقه ورجل الأعمال والمستثمر في مجال العقارات ستيف ويتكوف مبعوثاً خاصاً إلى الشرق الأوسط، وفي الإدارة الماضية لترمب 2017-2021 شغل جاريد كوشنر هذا المنصب. ووصف السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل ديفيد فريدمان ويتكوف بـ"الرجل اللامع والمحب لإسرائيل".
المناصب الأمنية والعسكرية
ومن المناصب المحورية في صناعة القرار في السياسة الخارجية الأمريكية منصب مستشار الأمن القومي الذي عيّن فيه ترمب النائب عن ولاية فلوريد مايك والتز. إلى جانب مواقفه المتشددة تجاه الصين، يحظى والتز بعلاقة جيدة مع الهيئات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وتحديداً الائتلاف اليهودي الجمهوري ولجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية (أيباك)، وذلك وفقاً لما قالته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وذلك يرجع إلى انتمائه إلى تيار المحافظين الجدد.
وحول الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، والسياسة الأمريكية تجاه طهران، قال والتز في مقال مشترك مع ماثيو كرونيغ على مجلة الإيكونيميست إنه يتبنى ما قاله الرئيس ترمب حول ضرورة "السماح لإسرائيل بإنهاء المهمة" و"إنهاء الأمر بسرعة" ضد حماس.
وفي ما يتعلق بإيران والبرنامج النووي قال والتز إنه من الضروري لواشنطن "وضع خيار عسكري موثوق على الطاولة للتوضيح للإيرانيين أن أمريكا ستمنعهم من بناء الأسلحة النووية، وإعادة حملة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي لوقفهم".
ويعود والتز ويؤكد أن الضغط العسكري الأمريكي في المنطقة هدفه الأساسي فرض واقع جديد يسمح بـ"نقل القدرات الحاسمة إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ"، وهذا ما يتفق مع نظرة المحافظين الجدد القائمة على استخدام القوة لفرض ترتيبات سياسية ملائمة لمصالح الولايات المتحدة.
وعيّن ترمب في منصب مدير وكالة المخابرات الأمريكية (CİA) عضو الكونغرس السابق جون راتكليف، الذي عمل معه في الدورة الماضية مديراً للاستخبارات الوطنية، الهيئة المشرفة على كل الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة، ما أهّله ليكون محط ثقة ترمب. ويُعَدّ راتكليف من الصقور في ما يتعلق بالتعامل مع قضايا المنطقة، وسبق أن اتهم إدارة الرئيس بايدن بمحاولة "استرضاء إيران عبر عزل إسرائيل"، داعياً إلى سياسة أكثر تشدداً مع طهران.
الشخصية الأخرى التي سوف يكون لها أثر كبير في شكل السياسة الأمريكية في المنطقة هي بيت هيجسيث، وزير الدفاع الأمريكي الجديد، الجندي السابق والمعلق في قناة فوكس نيوز والمعروف بآرائه وتعليقاته المؤيدة لإسرائيل وسياساتها في قطاع غزة، كما دعا في أكثر من مناسبة إلى مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية وتصفية قيادات الحرس الثوري.
"أمريكا أولاً" أم المحافظون الجدد مجدداً؟
خلال حملته الانتخابية عام 2016 طرح الرئيس الأمريكي شعار "أمريكا أولاً" الذي عبّر عن توجهات ترمب في السياسة الخارجية، التي ركزت بالدرجة الأساسية على أولوية الولايات المتحدة بمواردها والتخفف من الصراعات والالتزامات الخارجية. وعلى النقيض منها كانت استراتيجية "المحافظون الجدد" الذين خاضوا أهم حروب الولايات المتحدة في بداية الألفية الثانية في أفغانستان والعراق.
وبالنظر إلى الجزء الأكبر من التعيينات التي أجراها الرئيس ترمب، يلاحظ أنها لشخصيات كانت محسوبة على "المحافظين الجدد" الحاملة لأجندة تدخلية، فوزير الخارجية المعيّن مارك روبيو كان من أعضاء الكونغرس الذين دافعوا عن إرسال الأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا، كما فعل ذلك مستشار الأمن القومي الذي عيّنه ترمب مايك والتز.
هذا الأمر اختلف لاحقاً عندما عارض كلاهما حزمة المساعدات الأخيرة المقدمة إلى أوكرانيا، بحجة أن الولايات المتحدة لن تتمكن من تحمّل تكاليف تحرير أوكرانيا في ظل أزمة المهاجرين غير الشرعيين على حدودها الجنوبية.
وتشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن ترمب استطاع جذب جزء من المحافظين الجدد الموجودين في الحزب الجمهوري ليكونوا ذوي ولاء لترمب نفسه، ما يعكس -وفقاً للصحيفة- التحول الذي يشهده الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة.
وتضيف الصحيفة أن الشخصيات المقربة من ترمب باتت "أقل شبهاً بديك تشيني نائب الرئيس السابق، أو جون ر. بولتون الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي الثالث لترمب، ولم يعودا يتحدثان عن التدخلات الأجنبية أو احتمالات تغيير النظام، بل يتحدثان بدلاً من ذلك بلغة حركة "أمريكا أولاً"، ويندمجان بشكل أكثر راحة مع النظرة العالمية غير المنتظمة لترمب، حيث تسود الصفقات على حساب الأيديولوجية".