تزايدت المخلفات المشعةبعد القصف الأمريكي في حرب الخليج الثانية 1991واحتلال العراق عام 2003، ما أدى إلى توقُّع الأطباء والمختصين تصاعد حالات الإصابة بمرض السرطان إلى أرقام خطيرة لا يمكن السيطرة عليها.
لم يُحل هذا الملف الحساس في البرلمان العراقي من خلال تشكيل لجنة طبية مختصة، ما أدى إلى وفاة مئات المدنيين، وسط تبادل الاتهامات بين الأحزاب السياسية حول مسؤولية ممثليهم بوزارة الصحة والبيئة والداخلية وتقصيرهم المباشر بإهمال أرواح الناس والتلاعب بحقوقهم الطبية، ما أدى إلى الكشف عن إحصائية إصابة أكثر من 3 آلاف بالسرطان خلال 2020، حسب مختصين في الأورام السرطانية.
البصرة ضحية الحروب
تتكون نفايات المواد الخطرة والمشعة من مخلفات معمل الحديد والصلب في البصرة، وبقايا الدبابات والأسلحة والمعامل التي ظلت مدمرة في مسارح العمليات العسكرية خلال الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980 وتعرضت للقصف الأمريكي في حرب الخليج الثانية 1991واحتلال العراق عام 2003، فضلاً عن بقايا الصواريخ التي أطلقتها القوات الأمريكية على مجموعة من الأهداف العسكرية والمدنية.
بهذا الصدد تحدث مدير دائرة البيئة والصحة في المنطقة الجنوبية وليد الموسوي لـ"TRT عربي" قائلاً: "ترجع أسباب الزيادة الحاصلة في انتشار مرض السرطان المستعصي بمحافظة البصرة إلى تصاعد نسبة التلوث البيئي، مشيراً إلى رمي المخلفات وتفريغ مياه الصرف الصحي لقرابة 15 مستشفى في البصرة بالأنهار الداخلية، وذلك لعدم وجود محطات بيولوجية خاصة بتلك المستشفيات. وأغلب تلك المستشفيات لا تلتزم معايير البيئة".
وأضاف الموسوي: "كشفنا عن وجود 26 موقعاً ملوثاً في مناطق الدرهمية والهوير والرميلة وأبي الخصيب والبرجسية والقرنة وجبل سنام والفاو جنوب غرب البصرة وشمالها".
وتابع: "إن سنوات الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) التي جرى فيها استخدام أنواع مختلفة من الأسلحة والذخائر الملوثة باليورانيوم تركت هي الأخرى أثراً كبيراً على صحة المواطنين في هذه المحافظة الجنوبية، إذ وصلت الملوثات البيئية والمواد المشعة إلى المياه الجوفية المستخدَمة في سقي المحاصيل الزراعية لا سيما بقضاء الزبير".
وأكد الموسوي أن "الآثار التي نتجت عن استخدام اليورانيوم المنضب من قبل الجيش الأمريكي ضد الجيش العراقي في حرب الخليج واستمرار زراعة الألغام والقصف الذي طال المنشأة الصناعية والنفطية ومحطات الكهرباء كان سبباً مباشراً بزيادة أمراض السرطان، ما أطلق التلوث على نطاق واسع من دون معالجة حكومية".
أرقام وإحصائيات خطيرة
يضرب مرض السرطان سكان العراق بوقت لم تتدخل فيه الحكومة الاتحادية لمساعدة رعاياها هناك على التخلّص ممّا يعانونه. وتفيد أرقام وزارة الصحة بأن أكثر من 25 ألف إصابة بالسرطان مُسجلة في العراق حتى الآن، أغلبها بسبب مخلفات الحرب وبعض أنواع الذخائر والأسلحة التي استُخدمت خلال غزو العراق عام 2003.
وفقاً لهذا السياق صرّح المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة العراقية سيف البدر لـTRT عربي بالقول: "إن المعدل السنوي للإصابة بمرض السرطان في العراق يبلغ 2500 حالة إصابة، بينها 20% إصابات بسرطان الثدي، وقد حصدت البصرة أعلى نسب الإصابة بالسرطان بين عامَي 2015 و2017، فقد تراوح بين 400 و500 إصابة شهرياً، لكنه ارتفع بنسبة تصل إلى 200% تقريباً خلال 2018".
وتابع البدر: "البصرة تتصدر مدن العراق بتسجيل إصابات بالسرطان، إذ بلغ معدل الإصابات الشهرية عام 2020 ما يقارب (600-700) إصابة، وهذا ينذر بكارثة صحية خطيرة في المحافظات الجنوبية، وعلى الجهات أن تتعاون مع وزارة الصحة لمساعدة المرضى".
من جانبه أكد مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان بالبصرة مهدي التميمي لـTRT عربي أن "أكثر من 90% من المصابين بالسرطان بالبصرة يتوفّون لشدة المواد الكيماوية في المحافظة بسبب الحروب. ولكن تحاول أحزاب سياسية حكومية إخفاء الحقيقية. علماً أنه سابقاً كانت الحكومة ترفض الحديث عن مرض السرطان ونِسبه، لكن اليوم لا مجال لإخفاء هذه الكارثة".
وأشار التميمي إلى أن الإصابات بالبصرة تصل إلى 24 ألف مصاب، محمّلاً الشركات النفطية العاملة بالمحافظة المسؤولية وأن الدولة يجب عليها التحرك لتراقب تلك الشركات ومن يديرها ويتعاون معها من أحزاب سياسية".
بدوره صرّح عضو لجنة الصحة والبيئة بمجلس النواب العراقي صفاء بندر في حديثه بأن "محافظة البصرة تصل إلى نحو 3 ملايين نسمة. لكن الكارثة هي وجود مركز واحد لمرضى الأورام السرطانية سعته 400 سرير وليس فيه سوى 200 سرير صالح للاستخدام. كما يعاني من التقادم والرطوبة ومشاكل في الخدمات. يستقبل المركز يومياً بين 120 و150 مريضاً بالأورام السرطانية، وسجّل خلال السنوات الأخيرة 2500 حالة سنوياً".
المواقع المشعة في البصرة
حسب دراسة أعدتها الباحثة بالهندسة الجيولوجية سعاد ناجي العزاوي، أطلقت القوات الأمريكية بحرب الخليج الأولى التي امتدت 8 أعوام (1980-1988) أكثر من مليون قذيفة على مناطق غرب البصرة يتراوح وزنها بين 320 و500 طن من اليورانيوم المنضب.
وبهذا الصدد صرّحت لـTRT عربي بالقول: "استخدمت القوات الأمريكية مجدداً في حرب الخليج الثانية عام 1991 أكثر من 900 طن من الصواريخ المنضبة باليورانيوم، وحصة البصرة منها قرابة 200 طن، ما أدى إلى تكدس المخلفات الحربية في مناطق البصرة، مؤكدةً وجود 26 موقعاً ملوثاً في مناطق "الدرهمية والهوير والرميلة وأبي الخصيب والبرجسية والقرنة وجبل سنام والفاو جنوب غرب البصرة وشمالها".
وحول مفاعيل أكاسيد اليورانيوم علقت العزاوي: "أجريت دراسة على منطقة مكتظة بالسكان مساحتها 1200 كيلومتراً مربعاً، شملت مدن صفوان والزبير غرب البصرة التي تعرضت لإشعاعات عالية بسبب تلوث اليورانيوم المنضب، وكشفت النتائج أن الإصابات بالأمراض السرطانية المميتة وغير المميتة (الثدي والرئة والجهاز الهضمي) وسرطان الدم (اللوكيميا) المتوقعة بمدينة صفوان نحو 1930 حالة تمثل 7.2% من السكان، ونحو 9141 حالة بمدينة الزبير تمثل 4.5% من السكان، ونحو 4475 غرب البصرة تمثل 4.5% من السكان".
التلوث والمخلفات تسبب السرطان
مراقبون ومختصون بالصحة والبيئة طالبوا المسؤولين في وزارتَي البيئة والصحة بأن يتركوا خلافاتهم السياسية ويبتعدوا عن صفقاتهم التجارية المشبوهة ويسارعوا بتخفيف كارثة انتشار السرطان، لأن تلوث المياه والأراضي الزراعية المتأثرة بالإشعاعات الكيماوية من العوامل المباشرة التي أدت إلى ارتفاع نسب الإصابات بالسرطان في العراق خلال السنوات الماضية".
يقول الدكتور شكري الحسن، اختصاصي التلوث البيئي في جامعة البصرة لـTRT عربي: "أخذنا عينة من مياه شط العرب لفحصها، وكانت كأنها حوض كبير للسم والسرطان والتلوث المتراكم منذ سنوات. التلوث البيئي ومخلفات الحروب التي مرت على المحافظة تشكل 35% من أسباب انتشار المرض، أما النسبة المتبقية (65%) فتتعلق بتلوث المياه والمحاصيل".
وأضاف الحسن: "زيادة التلوث البيئي بخاصة النشاط الإشعاعي الناجم عن اليورانيوم المنضب المستخدم بحرب الخليج عام 1991 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتلوث الانبعاثات الغازية من الآبار النفطية بالبصرة أدى إلى زيادة الإصابة بالسرطان في العراق عموماً والبصرة خصوصاً، وعلى الجهات الحكومية تحمُّل المسؤولية وإنقاذ الناس من الخطر".
ولفت اختصاصي التلوث البيئي إلى أن "البصرة باتت مركزاً للتلوث الإشعاعي والنفطي الذي ألقى بظلاله على الأهالي بالأمراض الخبيثة وفي مطلعها السرطان، وأن مناطق شط العرب والزبير ومركز البصرة تسجل الأعلى بالإصابات السرطانية في عموم العراق، مشيراً إلى أن بعض شوارع تلك المناطق سجلت معدل إصابة سرطانية في كل دار".
ارتفاع تكاليف العلاج
عدم جاهزية المستشفيات الحكومية العراقية التي تقدم العلاج لمرضى السرطان هي واحدة من عدة مشكلات يعانيها المرضى، مما يضطر كثيراً من المصابين إلى السفر خارج العراق لتلقِّي العلاج، بسبب توافر مراكز حديثة لعلاج المرضى، ويعود السبب الثاني إلى فقدان عدة محافظات عراقية لمراكز الأورام السرطانية بسبب الحروب والمعارك والاضطراب الأمني، تُضاف إلى ذلك صفقات الفساد في مشاريع بناء المستشفيات وتطويرها، حسب مراقبين.
التقى مراسل TRT عربي أحد مرضى البصرة اسمه كاظم الحسيني يعاني سرطان الرئة، وقال: "لا توجد لدينا حقوق ببلادنا ولا نملك المصاريف الكافية للعمليات وجرعات العلاج، لذلك اضطر والدي إلى بيع بيت العائلة كي نذهب إلى عمَّان ونحصل على جرعات الكيماوي. فسعر الجرعة الواحدة في عمَّان 4000$، وأنا أحتاج إلى 10 جرعات، لتصبح تكلفة العلاج النهائية ما يقارب 40000$، تشمل الفحوصات الطبية مع الأدوية الأخرى".
وأضاف الحسيني: "نضطر إلى تكاليف باهظة لأننا في العراق، إذ لا يتوفر علاج سرطان الرئة بالمستشفى الحكومي أو الخاص، وسعر الجرعة من الصيدليات الخاصة في البصرة أكثر من 2500$، ونجد صعوبة بالحصول عليها وننتظر شهوراً وعندما نذهب إلى المستشفيات الحكومية يعاملوننا بطريقة سيئة ولا وجود لاحترام ولا تقدير لظروف المريض".
وبدوره تحدث الطبيب محمد علاوي عن معاناة المرضى ببيع ممتلكاتهم لتلقِّي العلاج خارج العراق، فقال لـTRT عربي: "الفقر بالبلاد يساهم في موت المصابين بالسرطان، ومصاريف العلاج ليست متاحة لجميع العراقيين. والكثيرون يضطرون إلى إكمال العلاج وشراء الأدوية من الصيدليات الخاصة وقد يتراوح سعر الجرعة الواحدة من (1000$-2000$). بعد أن عجزت الحكومة عن توفير العلاج للمرضى، مما ساعد الصيدليات الخاصة على فرضِ سيطرتها على سوق أدوية السرطان في البصرة".
وأكد علاوي أن التباين الكبير في أسعار العلاجات الكيميائية من مئات الدولارات إلى آلاف الدولارات يعتمد بشكل كبير على مرحلة السرطان، ويشمل الخيارات الثلاثة في الجراحة والعلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي إضافة إلى مصدر الدواء، حسب تعبيره.
وانضم العراق عام 2007 إلى معاهدة أوتاوا الدولية، وهي تطالبه بتطهير أراضيه من الألغام وبقية مخلفات الحرب، لكن لا تزال البصرة الواقعة أقصى جنوب العراق والمعروفة بأنّ سكّانها ينامون على بحر من النفط تعيش منذ أكثر من 41 عاماً وضعاً صحياً متردّياً وارتفاعاً بالإصابات التي عانتها بسبب تلوّث المياه والتربة والألغام الحربية التي بقيت فيها منذ عقود، وتلوث الجوّ بسبب شركات النفط، وصولاً إلى الإصابات بمرض السرطان.