استهدف الإسلام وأغلق المساجد.. تفاصيل فضيحة فساد مدوية تطيح بمستشار النمسا
شملت الفضيحة التي أطاحت بمستشار النمسا تزوير استطلاعات الرأي وتسلّقه السلطة، وسيطرته على وسائل الإعلام وتهديده الإعلاميين الذين ينتقدونه، فيما استهدف المسلمين وأغلق المساجد بحجّة محاربة الإسلام السياسي. فماذا نعرف عن الجانب المظلم لسيباستيان كورتس؟
المستشار النمساوي سيباستيان كورتس قبل مؤتمر صحفي في 9 أكتوبر/تشرين الأول عندما تنحى عن القيادة (AFP)

ما إن أعلن المستشار النمساوي سيباستيان كورتس، استقالته من منصبه، في أعقاب اتهامه بالفساد، حتى بدأت تتكشف حقيقة الرجل الذي استهدف المسلمين وأغلق المساجد، وزوّر استطلاعات الرأي وقيّد الإعلام، فيما اشترى وسائل إعلام كبيرة وذات شعبية واسعة، من أجل تنفيذ مخططاته والتغطية على فساده.

وسلّط سقوط "عبقري النمسا السياسي"، كما وصفته صحيفة "نيويورك تايمز"، الضوء على الجانب المظلم من كورتس. فبعدما ظلّ الحزب المحافظ في النمسا متخلّفاً عن منافسيه لسنوات، حصلت معجزة عام 2017، وانعكست استطلاعات الرأي بشكل مذهل، مما أعطى المحافظين مصداقية جديدة ساعدتهم على إقناع الناخبين بأن لديهم فرصة حقيقية للفوز، وبعد خمسة أشهر في الانتخابات، فعلوا ذلك.

الرجل الذي كان له الفضل في المعجزة هو سيباستيان كورتس، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً فقط، وهو يرتدي ملابس أنيقة، وشعره أملس وشعاراته أكثر نعومة على وسائل التواصل الاجتماعي. وأبرز ما في هذه المعجزة أنه أصبح أصغر مستشار في النمسا على الإطلاق وشكّل حكومة مع اليمين المتطرف.

وكانت السلطات دهمت مكاتب كورتس ومقرّ حزبه في فيينا، وسط شكوك بأنه ودائرته المقربة تآمروا لاختلاس أموال عامة لرشوة منظمي استطلاعات الرأي وشخصيات إعلامية بارزة مقابل تغطية إيجابية، بحسب ما نقل موقع “بوليتيكو” الأوروبي.

ونفى كورتس ارتكاب أية مخالفات، وقال إنه مستعد للاستمرار في الحكم مع شريكه في الائتلاف حزب الخضر. لكن الحزب اليساري قال إنّ التحقيق يجعل كورتس غير لائق للعمل مستشاراً ودعا حزبه إلى تسمية خليفة له.

كورتس في فيينا في أكتوبر/تشرين الأول 2017، الشهر الذي انتُخب فيه (AFP)

تزوير استطلاعات الرأي

انتُخب كورتس في نفس العام الذي تولى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب منصبه، وسرعان ما شوهد في أوروبا على أنه الفتى الواعد لجيل جديد من اليمين الصاعد، عبقري سياسي أنقذ التيار المحافظ من خلال استعارة أجندة اليمين المتطرف، وتحسينها وإدخالها في الاتجاه السائد، كما تقول "نيويورك تايمز".

وتقول الصحيفة، إنّ العديد من استطلاعات الرأي قبل تلك الانتخابات زُوّرت وإنّ كورتس ومجموعة صغيرة من الحلفاء الذين كانوا مخلصين له دفعوا لأكبر الصحف شعبية في النمسا لضمان تغطية إخبارية مواتية.

وتضيف: "بمجرد وصوله إلى السلطة، أضفى الطابع المؤسسي على النظام، باستخدام أموال دافعي الضرائب لإظهار شعبيته ومعاقبة الصحفيين ووسائل الإعلام التي تنتقده".

يقول هيلموت براندشتاتر، محرر صحيفة سابق، الذي تعرّض للتنمر من كورتس وضُغط عليه لترك وظيفته: "ما رآه الناخبون لم يكن حقيقياً، لقد كانت خطة للتأثير على الانتخابات وتقويض الديمقراطية".

ويضيف: "صورة السياسي المثالي، كانت كلها مزيفة، سيباستيان كورتس الحقيقي هو شخص أكثر شراً".

ونفى كورتس، الذي تنحى عن منصبه كمستشار في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، ارتكاب أية مخالفات ولم يُتّهم بأي جريمة، لكنه لا يزال قيد التحقيق بتهمة الرشوة والاختلاس، فيما ترددت أصداء سقوطه في جميع أنحاء أوروبا.

إعلان لحملة انتخابية يُظهر كورتس في عام 2017 وكُتب عليها "افعل ما هو صواب من أجل النمسا" (Reuters)

شراء وسائل إعلام

في الشهر الذي فاز فيه الصحفيون بجائزة نوبل لمحاسبة الحكومات، سلطت فضيحة النمسا الضوء على العلاقة التكافلية الواضحة بين القادة الشعبويين واليمينيين والأجزاء المتعاطفة من وسائل الإعلام الإخبارية.

يقول ممثلو الادعاء إن كورتس اشترى ثالث أكبر صحيفة شعبية في النمسا برشى تزيد على مليون يورو، متنكّراً في صورة إعلانات مبوبة.

وتؤكد ناتاشا ستروبل، مؤلفة كتاب "المحافظة الراديكالية"، أنّ "كورتس استخدم العديد من الأساليب نفسها التي يستخدمها الشعبويون القوميون الآخرون، للتواطؤ الفاسد مع وسائل الإعلام الصديقة ومحاولة إسكات الصحفيين الناقدين".

ويطلق المدعون على كورتس "الشخصية المركزية" في مخطط مفصّل للتلاعب بالرأي العام شمل العديد من أعضاء دائرته الداخلية، بالإضافة إلى اثنين من منظمي الاستطلاعات واثنين من مالكي صحيفة التابلويد أوستريتش.

وتبدو القضية المرفوعة ضده وكأنها قصة سياسية مثيرة. ففي 104 صفحة، حصلت عليها صحيفة "نيويورك تايمز"، يوثّق المدّعون بدقة خطة سرية للتلاعب بالرأي العام من أجل الفوز بالسلطة ثم ترسيخ سيطرتهم.

وفُضحت طريقة شراء استطلاعات الرأي المزورة والتغطية الإعلامية بتفاصيل في محادثات الدردشة المسترجعة من الهاتف المحمول لأحد أقرب حلفاء كورتس وأصدقائه، توماس شميد.

وشغل شميد سلسلة من المناصب العليا في وزارة المالية وتنزه مع كورتس، وكان واحداً من حفنة من المؤيدين المخلصين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "البريتوريون"، على اسم الحرس النخبة للأباطرة الرومان.

وكانت المشكلة التي واجهها كورتس في عام 2016 أنه لم يكن زعيم حزب الشعب المحافظ، بل كان وزيراً للخارجية في حكومة ائتلافية غير شعبية بقيادة حزب الديمقراطيين الاشتراكيين من يسار الوسط، ولكي يصبح مستشاراً، كان عليه أن يتولى إدارة حزبه أولاً.

وأوضحت إحدى الوثائق من "التحضير" إلى "الاستيلاء" كيف يمكن تقويض منافس كورتس على رأس الحزب المحافظ باستطلاعات الرأي التي تقول إنّ "كل شيء أفضل" مع وجود كورتس على رأس القيادة.

وكتب المدّعون العامّون: "نظراً للتردد داخل الحزب، كان على سيباستيان كورتس متابعة خطته سراً"، مشيرين إلى أنّ الخطة "ستتكبد تكاليف كبيرة، وهذا أيضاً يجعل التغطية على التمويل أمراً لا مفرّ منه".

وكان لدى شميد في وزارة المالية، إمكانية الوصول إلى المال. قال المدّعون إنه تأكد من أن ميزانية كورتس الإعلامية في وزارة الخارجية حصلت على دفعة كبيرة، ووجد طرقاً لفاتورة الاقتراع السري الذي لم يظهر في الحسابات الرسمية.

وكانت الآلية التي ابتكرها بمساعدة كورتس بسيطة، إذ قام شميد بتعيين وزير الأسرة المحافظ، الذي كان يدير سابقا مؤسسة اقتراع. وعُيّن أحد الشركاء السابقين الذين تربطهم صلات وثيقة بمالكي "أوستريتش" مسؤولاً عن عملية الاقتراع، فيما أملى حلفاء كورتس الأسئلة التي يجب طرحها. ثم اختاروا النتائج الإيجابية، وغالباً ما قاموا بتعديلها بشكل أكبر لدعم محاولة كورتس القيادية.

كورتس بعد إعلان استقالته في 9 أكتوبر/تشرين الأول (AFP)

وفي ديسمبر/كانون الأول 2016، نقل شميد بعض الأخبار الجيدة لكورتس في رسالة، وكان استطلاع آخر قد احتل العناوين الرئيسية، أظهر أن المحافظين بلغوا نسبة منخفضة قياسية بلغت 18%، مما أضعف من منافس كورتس. "شكرا لك"، أجاب كورتس.

بمرور الوقت، في يناير/كانون الثاني 2017 ، لم تنشر "أوستريتش" استطلاعاً للرأي فحسب، بل نشرت أيضاً مقابلة مع مستطلعة الرأي، سابين بينشاب، واستخدمت أحد اقتباساتها كعنوان رئيسي: المحافظون "سيستفيدون من التحوّل إلى كورتس".

وبحلول أوائل مايو/أيار، استقال الزعيم المحافظ وسرعان ما عُيّن كورتس خلفاً له. وعلى الفور انطلق حزبه في صناديق الاقتراع، وفي غضون ثلاثة أسابيع، دفع السيد كورتس إلى موقع الريادة.

في هذا الوقت تقريباً، سعى كورتس بنشاط إلى عقد اجتماعات للضغط على المزيد من الصحفيين الناقدين. وفي يونيو/حزيران 2017، تناول العشاء مع رئيس تحرير صحيفة "Kurier"، إحدى الصحف الكبيرة، وسأله مراراً وتكراراً "لماذا لا تحبني؟". ويذكر رئيس تحرير الصحيفة أن كورتس قال: "عليك أن تقرر ما إذا كنت صديقي أو عدوي".

تجاوزات عنصرية

فاز كورتس في الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول 2017 بشكل مريح. وأدار حملته حول قيود الهجرة والهوية النمساوية، مما أعطى مظهراً شبابياً لكثير من أجندة اليمين المتطرف، وفي الأشهر السبعة عشر التي تلت ذلك، غضّ الطرف عن التجاوزات العنصرية لشركائه في التحالف. وعندما أبلغ صحفيون عنها، تلقوا مكالمات هاتفية منه أو من أحد أعضاء فريق الاتصالات الموسع الخاص به.

وفي مايو/أيار 2019 ، اندلعت واحدة من أكبر الفضائح في النمسا. حيث ظهر مقطع فيديو قديم يُظهر الوزير الأقدم في حزب الحرية اليميني المتطرف في تحالف كورتس وهو يعد بعقود حكومية لمستثمر روسي محتمل مقابل تأمين تغطية مواتية في صحيفة شعبية نمساوية معروفة، كرونين تسايتونج.

وأوضح الفيديو ما كان اليمين المتطرف مستعداً للقيام به، وما لم يعرفه النمساويون هو أن مستشارهم المحافظ كان يفعل ذلك بالفعل، ووضع التحقيق في الفيديو المدعين العامين، في نهاية المطاف، على أثر كورتس ورجاله.

وبعد تفجّر فضيحة الفيديو، أنهى كورتس بسرعة تحالفه مع اليمين المتطرف، وفاز بإعادة انتخابه ودخل هذه المرة في ائتلاف مع حزب الخضر التقدمي، وهو تغيير أتاح له الفرصة للتخلص من وصمة ارتباطه باليمين المتطرف.

في يونيو/حزيران الماضي، بعد أن كتبت مجلة News النمساوية مقالاً ينتقد المحافظين في عهد كورتس، ألغت وزارة المالية جميع إعلاناتها المبوبة، ليس فقط في الأخبار، ولكن في جميع العناوين الـ15 التي تمتلكها مجموعة النشر VGN.

وقال هورست بيركر، الرئيس التنفيذي لشركة VGN، إنّ الخسارة كانت نحو 200 ألف يورو. وأوضح في مقابلة: "حاولت جميع الحكومات الحصول على وسائل الإعلام المهمة، لكن كورتس أخذها إلى بُعد جديد".

كورتس يتحدث في سبتمبر/أيلول 2017 في تجمع انتخابي في فيينا (Reuters)

استهداف المسلمين والمساجد

عُرف سيباستيان كورتس بهجومه على الإسلام السياسي، وصرّح أنه "خطر" على نموذج العيش الأوربي وأن تياراته تهدّد الحرية.

وصرّح سابقاً أنه "ينبغي على الاتحاد الأوربي أن يتولى مكافحة الإرهاب الإسلامي، ولا سيّما مكافحة القاعدة السياسية التي يستند إليها، أي الإسلام السياسي بكل العزم والوحدة الضروريين".

وكان قد أعلن في السنوات الأخيرة قرار إغلاق 7 مساجد في البلاد وترحيل عدد كبير من الأئمة المسلمين، في إطار "مكافحة الإسلام السياسي".

وفي مايو/أيار الماضي أطلقت حكومة كورتس الخريطة الرقمية المثيرة للجدل "Islam Landkarte الخريطة الإسلامية" التي تتضمن قائمة كافة أسماء ومواقع أكثر من 620 مسجداً وجمعية إسلامية ومسؤولين مسلمين.

وبعد انطلاق عمل الخريطة في 27 مايو/أيار الماضي، علّقت جماعات يمينية متطرفة لافتات تحمل تصريحات معادية للإسلام على العديد من المساجد.

وتوقفت الخريطة الرقمية عن العمل في النمسا، بعد موجة انتقادات واسعة وجهتها دوائر مختلفة ضد السلطات.

TRT عربي - وكالات