أم ناجية من مجزرة حماة.. كان عليَّ الاختيار بين التضحية بابنٍ لإنقاذ الآخر
في قلب مدينة حماة، وسط سوريا، إذ لا تزال أصداء المجزرة المروّعة التي ارتكبها نظام حزب البعث عام 1982 تتردد في ذاكرة من عاشوها، تقف السيدة مُعزز كريشة شاهدةً على إحدى أشد المآسي التي حُفرت في وجدان سوريا الحديث.
تقف السيدة مُعزز كريشة شاهدةَ على واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخ سوريا الحديث / صورة: AA (AA)

في تلك الأيام الحالكة، وجدت كريشة، التي تجاوزت الثمانين عاماً، نفسها أمام قرار لا طاقة لأمٍّ به، إذ كان عليها أن تختار بين ابنيها، من يسلم للجنود، ومن تحاول أن تخفيه عن أعينهم. خيار مستحيل، لكنه فرض عليها كما فُرض الموت على آلاف الأبرياء في تلك المجزرة التي تركت ندوباً لا تندمل في ذاكرة الناجين.

ومع سقوط نظام البعث في ديسمبر/كانون الأول 2024، بدأ من كتموا شهاداتهم عقوداً يكسرون الصمت، وانطلقت أصوات الناجين من مجزرة حماة تروي تفاصيل المذبحة، بعد 43 عاماً من القهر والخوف.

"ماجد مقابل ماهر"

خلال المجزرة التي نفذتها قوات نظام الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، بين 2 و28 فبراير/شباط 1982، احتمت كريشة مع زوجها وأطفالها الخمسة في قبو منزلهم، بينما كانت المدينة تنهار تحت القصف، وأزقتها تُملأ بالجثث والركام.

وفي لحظة فاجعة لا يمكن نسيانها، داهم الجنود منزلها، يبحثون عن أي شاب تجاوز الخامسة عشرة ليقتادوه إلى مصير مجهول. كانت كريشة تعرف أن من يُؤخذ لا يعود، فاضطرت، بقلب يعتصره الرعب، إلى تسليم ابنها الأكبر، ماجد، البالغ من العمر 20 عاماً، لتتمكن من إخفاء ابنها الأصغر ماهر، الذي لم يكن قد بلغ سوى السادسة عشرة.

وبعد 13 عاماً من الاعتقال والتغييب القسري، عاد ماجد إلى منزله، لكن فرحة لقائه بأمه وأشقائه لم تكتمل، فقد رحل والده قبل أن يراه مجدداً. عاد ماجد، لكنه لم يعد كما كان، عاد بروح مُثقلة بسنوات من العذاب خلف القضبان، وبذاكرة لم تفارقها مشاهد الألم.

ووفقاً لتقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد قُتل في المجزرة ما لا يقل عن 40 ألف مدني على أيدي قوات النظام، إما تحت القصف وإما بالإعدامات الجماعية، بينما لا تزال مقابر الضحايا مجهولة، وكأنهم اختفوا بلا أثر. أما 17 ألفاً ممن اعتُقلوا خلال المداهمات، فلا يزال مصيرهم طيّ النسيان، لا أسماء لهم إلا في قلوب ذويهم.

"كنت خائفة أن يُقتل أبنائي"

في مساء الثاني من فبراير/شباط 1982، عادت كريشة مع أسرتها من حلب إلى حماة، من دون أن تدرك أنها تعود إلى كابوس لم تشهد له مثيلاً. تتذكر تلك الليلة قائلة: "كنت مذعورة على أبنائي، خشيت أن يُقتلوا كما قُتل غيرهم بلا سبب".

وتضيف: "بدأ القصف المدفعي في المساء، كان عنيفاً إلى درجة جعلت الأرض تهتز تحت أقدامنا، حطم النوافذ، وزلزل الجدران، فأسرعنا إلى القبو، وأغلقنا الباب بالحجارة والكتب، وكأنها درع يحمي من قدر محتوم".

وتابعت: "أول ما سمعناه كان هدير الطائرات، ثم تبعتها الدبابات، تقصف المنازل كأن المدينة عدوٌ يجب أن يُمحى".

عن خوفها الذي لم يفارقها، قالت كريشة: "قلبي كان معلقاً بأطفالي. الأم لا تفكر بنفسها، بل تخاف على صغارها الذين لا ذنب لهم. كنت أحذرهم بلا توقف من الاقتراب من النوافذ، وكأن تلك التحذيرات قادرة على صدّ الموت".

وعندما اقتحم الجنود حيّها، لم تكن بحاجة إلى من يخبرها بما سيحدث. تضيف: "جاؤوا لاعتقال كل شاب. كنت أعرف أن من يأخذونه لن يعود، توسلت إليهم أن يتركوا لي أحد أبنائي، لم يكن بوسعي سوى أن أحاول إنقاذ واحد على الأقل، فاختاروا ماجد وأبقوا ماهر".

وتصف لحظة اقتياد ابنها الأكبر: "كانت أصعب لحظة في حياتي، شعرت أن قلبي يُنتزع من صدري. لم أعلم إن كنت سأراه مجدداً، لكني كنت متأكدة أنني لن أنسى تلك اللحظة أبداً".

وتضيف: "في كل مرة كانوا يقتحمون فيها منزلنا، كنت أخفي ماهر تحت البطانيات، كنت أعلم أن العثور عليه يعني قتله من دون تردد".

"ضحيتُ بنفسي لأجل أخي"

أما ماجد رمّال، الذي يبلغ اليوم 65 عاماً، فيروي ما لا يزال محفوراً في ذاكرته قائلاً: "كنا نراقب من نافذة القبو، رأينا الجنود يطلقون النار على المدنيين العُزّل، لم أنسَ كيف أصابت قذيفة دبابة ابن جارنا حاتم أمام أعيننا، تحول جسده إلى أشلاء في لحظة".

وأضاف: "لا يمكن لأحد أن يفهم هذا الرعب إلا من عاشه. كنا عاجزين عن الكلام، نتمتم بالدعاء، نترقب اللحظة التي سينكشف فيها مصيرنا".

وعن لحظة الاقتحام، قال: "جاؤوا كالإعصار، فصلوا الرجال عن النساء، ثم أخذوا الجميع، لم يُبقوا سوى كبار السن".

وتابع: "رأيت أمي تتقدم إلى الضابط المسؤول وتسأله: أين تأخذونهم؟ هل ستقتلونهم؟ أعلم أنكم ستقتلونهم! لكن، خذوا واحداً فقط، اتركوا لي الآخر".

وزاد: "كنت خائفاً على أخي، فأشرت لها أن تختارني، وهذا ما فعلته".

ويصف لحظة انتزاعه من أسرته قائلاً: "هنا، في هذا المكان تحديداً، ودّعتني أمي، أمسكت بيدي للحظة، ثم تركتها، لا كلمات يمكنها أن تصف ذلك الفراق".

وأضاف: "كنت أعلم أنني ذاهب إلى الموت، لم أكن منتمياً لأي حزب، لم أرتكب أي جريمة، لكن هذا لم يكن يعني شيئاً، كانوا يقتلون لمجرد الاشتباه".

وختم حديثه: "لم أشعر بالغضب تجاه قرار أمي، كنت أعلم أنني أفدي أخي، وكنت أفكر في سؤال واحد فقط: متى وأين سيكون الإعدام؟".

TRT عربي - وكالات