أدب السجون في سوريا: شهادة القهر وصوت الحرية
السجون، تلك البنايات الرمادية التي شيَّدها نظام الأسد المنهار بوفرة في سوريا، لم تكن لمواجهة الجريمة بل لقمع المجتمع وإسكات نخبته. كانت هذه السجون شاهدة على مصائر مظلمة لرجال ونساء ارتكبوا "جريمة" الفكر أو المعارضة.
السجون هي أول ما توجَّه إليها السوريون بحثاً عن أحباب ذهبوا ولم يعودوا / صورة: AA (AA)

ومن رحم تلك العتمة، انبثق أدب السجون ليكون لسان حال من عايشوا القهر، حيث حوّل الكتّاب آلامهم إلى شهادات حية، تروي حكايات الألم والكرامة، لتصبح جزءاً من ذاكرة شعب لا ينسى.

أدب السجون ليس مجرد أدب مأساة، بل هو صراع بين السجين والسجان، بين القهر والصمود، وبين اليأس والأمل. هنا، يكتشف الإنسان معنى "البعث" و"العودة من الموت"، حينما تتحول الزنزانة إلى فضاء للتأمل والمقاومة.

هذا النوع الأدبي يحمل في طياته تجربة وجودية تعكس النضال الداخلي والخارجي، ليصبح مرآة تكشف بشاعة الاستبداد من جهة، وعمق الروح الإنسانية من جهة أخرى.

لطالما كان السجن جزءاً من تجارب المفكرين والشعراء العرب، فقد عبر الأدب العربي منذ القدم عن محنة السجن بأشكال مختلفة. كتب أبو فراس الحمداني قصيدته الشهيرة "أراك عصيّ الدمع" في أثناء أسره في سجون الروم، لتظل رمزاً للشموخ في وجه المحن. كما ترك الإمام أحمد بن حنبل إرثاً فكرياً خلال سجنه في محنته الشهيرة، حيث حوَّل معاناته إلى طاقة علمية وإبداعية.

سوريا: أدب السجون شاهد على القهر

في سوريا، حيث تحولت السجون إلى أدوات للقمع والتنكيل، ظهر أدب السجون ليكون البديل عن صوت المعتقلين. هذه الأعمال لم تكن مجرد نصوص أدبية، بل وثائق إنسانية تروي قصص الألم، وتفضح ممارسات النظام داخل الأقبية المظلمة. وكما قال الكاتب السوري نبيل محمد في حديثه مع TRT عربي، فإن تطور أدب السجون السوري يعكس تأثير التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد.

قدم الأدب السوري عديداً من الأعمال التي توثِّق معاناة المعتقلين عبر العقود. من أبرزها رواية "القوقعة: يوميات متلصص" للكاتب مصطفى خليفة، التي تصور تجربة اعتقال الكاتب في سجن تدمر خلال الثمانينيات، حيث عايش العنف الممنهج والقهر النفسي. كما أبدع فرج بيرقدار في أشعاره التي وصفت تجربته الاعتقالية.

في التسعينيات، برزت أعمال مثل "تدمر: الشاهد والمشهود" لمحمد سليم حماد، الذي وثَّق تجربته في سجن تدمر سيئ السمعة، و"قهوة الجنرال" للكاتب غسان الجباعي، الذي نقل بمهارة أدبية تفاصيل سنوات اعتقاله التسع في سجون الأسد.

بعد الثورة السورية، أُضيفت أعمال جديدة مثل "ناجٍ من المقصلة" للكاتب محمد برو، الذي يسرد معاناة ثماني سنوات في سجن تدمر، وكتاب "بالخلاص يا شباب" لياسين الحاج صالح، الذي قضى 16 عاماً خلف القضبان.

سجون البعث: قمع ممنهج وأقبية مظلمة

مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، أصبحت السجون إحدى الأدوات الرئيسية في قمع المعارضة السياسية. زادت وحشية السجون مع الوقت، حيث تحولت إلى مراكز للتعذيب والإذلال. اشتدت القبضة الأمنية، وزاد التعتيم على ما يجري داخل تلك الأقبية، ليصبح السجن مساحة مغلقة تحكي قصصاً تفوق الخيال قسوة.

هذه الظروف جعلت من أدب السجون في سوريا أداة توثيق نادرة. وكما أشار الكاتب نبيل محمد، فإن ندرة الإنتاج الأدبي في هذا المجال تعود إلى الرقابة المشددة والخوف من الانتقام، مما جعل هذا الأدب يحمل طابعاً توثيقياً فريداً، يتجاوز البعد الإبداعي ليصبح شهادة على واقع مخيف.

يركز أدب السجون السوري على توثيق الحياة اليومية داخل السجون، ومحاولات السجناء الصمود أمام العنف الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى استكشاف الجوانب الإنسانية العميقة في حياة المعتقلين. تتناول هذه الأعمال أساليب التعذيب الوحشية، والعلاقات بين السجناء، وأثر السجن في الروح البشرية.

رغم أهمية أدب السجون في تسليط الضوء على ممارسات السلطة القمعية، فإنه واجه تحديات كبيرة في الانتشار. وكما قال نبيل محمد، فإن اقتناء رواية مثل "القوقعة" كان يُعد جريمة، إذ تُعامل هذه النصوص على أنها مواد محظورة تُخبّأ بحذر. بالإضافة إلى الرقابة الرسمية، عانى الكتّاب من خوف الانتقام والعزلة الاجتماعية، مما أدى إلى قلة الإنتاج الأدبي داخل سوريا. ومع ذلك، تمكن بعض الكتّاب من تجاوز هذه القيود بالنشر خارج البلاد أو بعد هروبهم من سوريا.

أدب السجون: نافذة نحو الحرية

رغم القيود، لعب أدب السجون دوراً كبيراً في تعزيز الوعي بحقوق الإنسان، والكشف عن ممارسات الأنظمة القمعية. هذا الأدب لم يكن مجرد صرخة ألم، بل كان وثيقة حية تعرّف الأجيال بحقيقة ما يجري داخل السجون. على المستوى المجتمعي، ساعد هذا الأدب في نشر مفاهيم الحرية والكرامة، وجعل القارئ يدرك حجم المعاناة التي تعرض لها المعتقلون.

لم يقتصر تأثير أدب السجون على المستوى المحلي، بل أصبح نافذة للعالم لفهم طبيعة القمع في سوريا. هذه الأعمال نقلت معاناة المعتقلين إلى الساحة الدولية، مما أسهم في تعزيز التضامن العالمي مع ضحايا النظام. وكما أشار نبيل محمد، فإن أدب السجون السوري تجاوز الحدود الجغرافية ليصبح جزءاً من الأدب الإنساني العام، الذي يوثق معاناة الإنسان تحت الاستبداد في جميع أنحاء العالم.

أدب السجون في سوريا ليس مجرد حكايات عن العذاب، بل هو صوت مقاومة وأمل. إنه الأدب الذي يواجه العتمة بالنور، ويعيد للضحايا صوتهم. من خلال هذه النصوص، يكتشف القارئ حقيقة الظلم والوحشية، ولكنه يجد أيضاً في طياتها روحاً لا تُقهر، تناضل من أجل الحرية. سيبقى هذا الأدب شاهداً على الحقبة المظلمة في تاريخ سوريا، ودرساً للعالم عن قيمة الكرامة الإنسانية.

TRT عربي - وكالات