أليس من المفترض أن يكون لدينا نظام ملاحة داخلي كنا نعتمد عليه قبل ظهور النظام الحديث في حياتنا بهذه القوة؟ ماذا يحدث لهذا النظام الداخلي حين نهمله ونتابع شاشة تخبرنا بأوامر محددة مختصرة، اتجه يميناً، على بعد مئة متر اتجه يساراً...؟
في الحقيقة كان هذا السؤال ملحّاً لبدء البحث في الموضوع للوصول إلى نتائج مذهلة، بدءاً من استراتيجيات الدماغ المذهلة في تحديد مكاننا وطريقة الوصول إلى وجهتنا، وانتهاءً بمضارّ استخدام GPS المفرط الذي يؤثّر سلباً في ذاكرتنا المكانية وحتى في أداء الدماغ في اتخاذ القرارات.
يعمل الدماغ في تحديد مكاننا وطريقنا للوصول إلى وجهتنا على نظامين ومنطقتين منفصلتين، الأولى التي تعتمد على الذاكرة المكانية spatial memory والتي تعتمد على الحصين (hippocampus) الذي يتمثل في الذاكرة العرضية التي تشبه السفر عبر الزمن وتذكر الأحداث على شكل صور مرئية (تتضمن الأماكن والمعالم)، والذاكرة العلائقية، أحد أنواع الذاكرة طويلة المدى التي نستخدمها في تذكُّر أشياءَ حصلت في الماضي، وأما المنطقة الأخرى فهي النواة المذنبة caudate nucleus التي تعمل باستراتيجية التحفيز والاستجابة، مثل الاتجاه يميناً أو يساراً، وهي المنطقة المسؤولة عن تَعلُّم العادات لدينا كتعلُّم ركوب الدراجة او قيادة السيارة مثلاً، التي تجعلنا في ما بعد نتبع طريقة (الطيار الآلي - auto- pilot) في الطرق التي نسلكها كثيراً بلا حاجة إلى التفكير في الاتجاه الذي سنسلكه في كل مرة.
أي إن عملية التنقل تتطلب منا جهداً عقلياً لتحديث موقعنا، وبالتالي اتخاذ القرار في سلوك أي طريق وملاحظة المعالم والتضاريس المحيطة بنا، وهذا ما يلغيه نظام GPS في حال اعتمادنا عليه في سلوك طريقنا!
فهل من هذه العملية ضرر؟
في دراسة لمجموعة من الأشخاص بشروط صحية عقلية معينة تضمن دقة النتائج، كعدم التعرض لأي ضرر في الدماغ وسلامة العقل من أي أمراض عقلية أخرى، جُرّبت قيادة محاكاة مرتين بفاصل زمني مقداره ثلاث سنوات، لوحظ في الدراسة أن الأشخاص الذين كانوا يعتمدون على GPS بكثرة خلال هذه السنوات الثلاث قد حدث تراجع كبير واضح في ذاكرتهم المكانية.
يؤدي استخدام نظام تحديد المواقع العالمي GPS للتنقل من نقطة إلى أخرى إلى التخلص من الحاجة إلى الاهتمام بمحيطنا وتحديث موقعنا داخليّاً في أثناء السفر، وبالتالي إحساس أقلّ بالتوجيه الذاتي (القدرة على تحديد المكان والاتجاهات).
كما تجعل الشخص أقلّ قدرة على تكوين تمثيل عقلي دقيق لمحيطه عندما يقرر التنقل دون مساعدة نظام الملاحة، فقد لاحظت الدراسة أن العلاقة متبادَلة بين ضعف الذاكرة المكانية والاعتماد على نظام الملاحة.
فالاعتماد على نظام الملاحة لا يؤثر فقط في استخدامنا للذاكرة المكانية، بل يؤثر في فاعليتها عندما نستخدمها. بمعنى أنه قد لا تسعفنا ذاكرتنا المكانية حين نحتاج إليها، وهذه نتيجة خطيرة حين نفكّر في الضرر الذي يمكن أن يلحق بها على المدى الطويل.
بينت الدراسة أيضاً أن كثرة الاعتماد على نظام الملاحة تزيد عدد المرات التي يحتاج إليها السائق للتعرُّف على الطريق ومعالمه، وعَزَت دراسة أخرى صعوبة التعلم هذه إلى تشتُّت انتباه السائق، تشتُّت انتباه العين والسمع معاً، بالنظر إلى الشاشة والاستماع إلى توجيهات نظام الملاحة.
أي إن باستطاعتنا القول إن الاعتماد على نظام الملاحة يلغي لدينا نشاطاً دماغياً يُعَدّ تمريناً يومياً مهماً في التعلم واتخاذ القرارات، ففي دراسة في هذا الموضوع وُجد أن الأشخاص الذين يسلكون طرقاً جديدة دون اللجوء إلى مساعدة نظام الملاحة، تُظهِر أدمغتهم نشاطاً كبيراً، وأن هذا النشاط سرعان ما يتوقف عند لجوئهم إلى نظام الملاحة.
هذا الاعتماد على نظام الملاحة لا يؤثر فقط فسيولوجيا في أدمغتنا، بل يؤثر في حياتنا أيضاً، فقد بينت إحصائيات لعدد الحوادث التي تُعرَف بـ"حوادث نظام الملاحة"، أعداداً كبيرة سببها تَشتُّت السائقين عن الطريق وعدم ملاحظتهم لما قد يكون حولهم من مخاطر.
قد يخطر ببالنا سؤال الآن: هل يمكننا أن نستغني عن نظام الملاحة؟
النظام الذي لا يستطيعون الآن تقدير قيمة أسهمه، حين سُئل أحدهم عن ذلك قال إن هذا السؤال يشبه سؤال كم تقدّر قيمة الأكسيجين!
الإجابة لا، لا يمكن أن نستغني عن نظام سبّب ثورة في عالم الصناعة والتنقل والتكنولوجيا وتبسيط الكثير من المشكلات التي يواجهها الإنسان.
لكن السؤال الحقيقي هو: هل من الممكن تجنُّب تأثيره السيئ علينا؟
يرى الخبراء أن الإجابة نعم.
وذلك من خلال دراسة المسار الذي يقترحه علينا، ولا نقف منتظرين توجيهاً آنيّاً بالتوجه يمينا ويساراً، وأن نركز في المعالم ونحاول قدر الإمكان أن لا نعتمد عليه خطوة بخطوة للوصول إلى طريقنا، فنتعامل معه مثل خريطة نقرؤها أو شخص نسأله.
فقد توصلت الدراسات إلى أن الأشخاص الذي يصلون إلى وجهتم عن طريق خريطة أو سؤال أحد الموجودين في الشارع أكثر قدرة على التعلم وذاكرتهم المكانية أكثر فاعلية.
ونبقى بانتظار دراسات أكثر توسعاً وتعمقاً حول هذا الموضوع تحمل لنا دليلاً تفصيلياً (كتالوغاً) صحياً يعلّمنا الطريقة الأنسب للتعامل مع هذا الاختراع الثوري!