التطبيق الصيني الناشئ تفوّق على تطبيق "تشات جي بي تي" من "أوبن إي آي / OpenAI" على متجر تطبيقات شركة "آبل"، بعد إطلاقه أوائل يناير/كانون الثاني الجاري، أدى إلى خسائر غير مسبوقة للشركات التكنولوجية العالمية، وعلى رأسها شركة إنفيديا، الشركة الأمريكية الرائدة في صناعة الرقائق الإلكترونية، التي انخفضت أسهمها مع بداية التداول يوم الاثنين الماضي بنحو 17٪ في قيمة أسهمها، وهو أكبر انخفاض منذ أزمة وباء كورونا في مارس/آذار 2020.
التطور الذي حمله التطبيق الصيني جاء في ثلاثة مجالات أساسية: الأولى عدد الرقائق المستخدمة في التطبيق، والثانية تكلفة التطوير والتدريب، والثالثة التطور الذي وصلت إليه الصين في مجال الذكاء الصناعي مقارنة بالولايات المتحدة، التي ظلت لسنوات متقدمة في هذا المجال.
وبحسب بيانات الشركة، تأسست "ديب سيك" الصينية برأس مال يبلغ 10 ملايين يوان (نحو مليون و400 ألف دولار) عام 2023، على يد المهندس "ليانغ ونفنغ"، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، برز اسم المهندس لأول مرة في عالم الاستثمار في الصين أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عندما شارك في تأسيس صندوق تحوط مالي وظّف الذكاء الصناعي في مجال الاستثمار المالي.
وبعد إجراءات تنظيمية وإدارية، قررت الشركة التحول إلى مجال الذكاء الصناعي والاستثمار في تطوير استجابة صينية للتحدي الذي فرضته شركة "OpenAI" الأمريكية.
رقائق أقل
في الصناعات التقنية، تُعتبر الرقائق الإلكترونية العصب الأساسي الذي تقوم عليه البرمجيات الحديثة كافة. هذا الأمر جعل من صناعة الرقائق وحركة التجارة المرتبطة بها إحدى أهم المساحات التي يجري فيها التنافس بين الصين والولايات المتحدة.
واشنطن، التي تسعى إلى تقييد وصول الصين إلى الرقائق الإلكترونية لعرقلة خططها في التطور التقني، قابلتها بكين بنموذج جديد يوفّر في استخدام هذه الشرائح. ففي حين أن نماذج أخرى تستخدم 16,000 شريحة لتدريبها، تمكن نموذج الشركة الصينية من الوصول إلى المستوى نفسه باستخدام 2,000 شريحة فقط.
وفي هذا الإطار، قال باتريك مورهد، الرئيس التنفيذي لشركة "مور إنسايتس آند ستراتيجي"، وهي شركة أبحاث في مجال التكنولوجيا وأشباه الموصلات، لصحيفة نيويورك تايمز: "في السابق، كلما زاد عدد الرقائق، زادت قدرات الذكاء الصناعي."
هذا الأمر أدى إلى فوائد كبيرة للشركات الغربية الرائدة في صناعة الرقائق، وعلى رأسها شركة إنفيديا، التي اعتمد التطبيق الصيني على شرائحها. ويضيف مورهد: "لكن الاختراق الذي حققته شركة DeepSeek فيما يتعلق بالتكلفة يتحدى رواية 'الأكبر هو الأفضل'، التي قادت سباق التسلح بالذكاء الصناعي في السنوات الأخيرة، من خلال إظهار أن النماذج الصغيرة نسبياً، عند تدريبها بشكل صحيح، يمكن أن تضاهي أو تتجاوز أداء نماذج أكبر بكثير".
مليارات مقابل ملايين
على مدار السنوات الماضية، أنفقت كبرى الشركات الغربية، مثل ميتا ومايكروسوفت وجوجل، مليارات الدولارات في تطوير نماذج الذكاء الصناعي، كما رصدت المليارات في إطار خططها المستقبلية لتطوير تقنيات الذكاء الصناعي، وخاصة المتعلقة بمراكز تخزين البيانات.
ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، بلغ إجمالي إنفاق شركات الحوسبة السحابية الثلاث الكبرى (أمازون، مايكروسوفت، وجوجل)، بالإضافة إلى ميتا التي تطور أيضاً نماذج ذكاء صناعي، نحو 180 مليار دولار على مراكز البيانات، بزيادة 57% عن العام السابق.
وفي بداية هذا الشهر، أعلنت مايكروسوفت أنها ستنفق 80 مليار دولار إضافية في عام 2025 على البنية التحتية للذكاء الصناعي، بينما صرحت ميتا الأسبوع الماضي بأنها تخطط لاستثمار 65 مليار دولار في هذا المجال.
مراكز البيانات الضخمة عادة ما تكون بحاجة إلى تبريد مستمر وتهوية، ما يعني استهلاك الكثير من الطاقة. ومن هنا جاء الانخفاض في أسهم شركات الطاقة، إذ يتطلب تدريب نموذج مثل GPT-3 طاقة تعادل استهلاك مئات المنازل لسنوات.
وفي هذا الإطار، تراجعت أسهم Siemens Energy، وهي شركة مصنعة للمعدات الكهربائية، بنسبة 20%، بينما انخفضت أسهم Cameco، إحدى شركات إنتاج اليورانيوم المستخدم في الطاقة النووية، بنسبة 13%. فقد بدأت الشركات التكنولوجية في الفترة الأخيرة التوجه نحو الطاقة النووية لتوليد الكهرباء الخاصة بمراكز تخزين البيانات.
في المقابل، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، كانت "ديب سيك" شركة خاصة بالكامل، لم يكن لديها أي دعم حكومي ظاهر، ولا تحالفات مع لاعبين كبار، ولم يكن لديها ثقل مؤسسي مثل بايدو، عملاق البحث الصيني. وبفضل التقنيات الجديدة التي استخدمها فريق الشركة، استغرق تدريب نموذج الشركة أقل من 3 ملايين ساعة حوسبية، بتكلفة أقل من 6 ملايين دولار.
هذا الأمر أدى، وفقاً لكيفن روز، كاتب عمود في مجال التكنولوجيا في صحيفة التايمز، إلى كسر عدد من الافتراضات المسبقة، وعلى رأسها الحاجة إلى إنفاق مبالغ طائلة على الرقائق القوية ومراكز البيانات من أجل بناء نماذج الذكاء الصناعي المتطورة.
الصين تلاحق الغرب
ويضيف كيفن روز افتراضاً آخر كسره التطبيق الصيني، وهو الرأي القائل بأن الصين متأخرة بشكل كبير في نماذج الذكاء الصناعي عن الولايات المتحدة، وأن التقدم الذي أحرزته شركات التكنولوجيا الأمريكية كان من الصعب تقليده أو نسخه فيما يتعلق بالشركات الصينية.
ويشير روز إلى أن نتائج التطبيق الصيني تظهر أن بكين تمتلك قدرات متقدمة في مجال الذكاء الصناعي، وأن الاختراقات التي حققتها الشركات الأمريكية قد يكون من السهل على الشركات الصينية -أو على الأقل شركة صينية واحدة- تكرارها في غضون أسابيع.
ويرى روز أن سباق التسلح بالذكاء الصناعي قد بدأ بالفعل، وأنه بعد عدة سنوات من التقدم المذهل، لا يزال هناك المزيد من المفاجآت في انتظارنا.
وهذا ما تلفت مجلة "الإيكونوميست" الانتباه إليه، إذ تشير إلى أن الذكاء الصناعي الصيني لم يتفوق بعد على نظيره الأمريكي، إلا أنه يقترب بسرعة غير مسبوقة. وإذا استمر على هذا المسار، فقد يشهد العالم قريباً تفوقاً صينياً في الذكاء الصناعي، ما قد يغير ميزان القوى التكنولوجي والاقتصادي في العالم.
وتشير المجلة إلى أن قطاع الذكاء الصناعي الصيني بدأ متأخراً عن نظيره الأمريكي، ويرجع ذلك جزئياً إلى العقوبات الأمريكية؛ ففي عام 2022، حظرت الولايات المتحدة تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، واضطرت شركة إنفيديا الرائدة في صناعة الرقائق إلى تصميم إصدارات أقل كفاءة خصيصاً للسوق الصيني.
كما سعت الولايات المتحدة إلى منع الصين من تطوير القدرة على تصنيع رقائق متقدمة محلياً، من خلال حظر تصدير المعدات اللازمة وتهديد الشركات غير الأمريكية التي قد تحاول مساعدة بكين.