تمر علينا الذكرى الأولى لرحيل الفنانة الفلسطينية ريم بنا، بعد صراع طويل مع مرض السرطان، رحلة طويلة من المعاناة بدأتها ريم مع المرض منذ 2009، رحلة فقدت فيها الكثير، من شعرها إلى صوتها، لكنها رغم كل ذلك لم تستسلم وظلّت تغنِّي وتصدر ألبومات حتى قبل رحيلها بعدة أشهُر.
الألبوم الأخير لريم "صوت المقاومة"، نموذج مثالي يلخّص رحلة ريم في الغناء والمقاومة. إصرار ريم على تقديم الألبوم رغم إصابتها بشلل أوتارها الصوتية، أن تبحث عن شكل للتحايل على مرضها لتقدم ألبوماً في شكل مركَّب ما بين إلقائها قصائد، وحكايات كتبتها هي، بجانب الموسيقى المكونة من صور الأشعَّة الطبية لريم وتحويلها إلى صوت عن طريق فرقة الموسيقى الإلكترونية الكندية Checkpoint 30، بالإضافة إلى عازف الجاز والبيانو بوجي ويسيلتوفت. لقد جاء الألبوم غريباً على تجربة ريم الموسيقية، جاء متمرداً مركباً أكثر من مجرَّد كونه جميلاً، خطوة كان على ريم أن تجتازها من عدة سنوات.
ريم هي بنت الناصرة، وُلدت عام 1966، وتعلقت بالموسيقى منذ صغرها، وغنت في عديد من الفعاليات، عندما أتمَّت عامها الخامس والعشرين كانت انتهت من الدراسة في موسكو، بدأت ريم حياتها الفنية مع مطلع التسعينيات، فعاشت في طفولتها وشبابها، نهوض الأغنية الفلسطينية، وخروجها من فكرة المقاومة الصريحة الحماسية. فكانت فرقة صابرين تعيد تشكيل الأغنية الفلسطينية الحديثة، وانطلقت فرقة الفنون الشعبية في إعادة إحياء للأغاني التراثية بكل أشكالها، تأكيداً للهوية الفلسطينية من تراثها الغنائي.
وبدأت ريم تخطو خطواتها الأولى وسط هذه الموجة الجديدة، التي جعلتها تختار صوتها وطريقتها بعناية، وتسلك مساراً له خصوصيته، وإن كانت تعيد غناء التراث أو المقاومة بكل أشكالها ودراجتها، كان أهم ما يميز ريم هو صوتها، لم تملك مقومات صوتية نادرة أو طربية، لكن كان له خصوصية وسحر، كان عذباً كأنه نهر جارٍ، له بُحَّته الخاصة التي تضيف سحراً خاصّاً على الأغاني التراثية.
من خليط بين البيانو والجاز ومساحات صوتية واسعة جاء ألبومها "حلم" عام 1993، ثم جاءت الخطوة الثانية في مشوار ريم مع ألبوم "مرايا الروح" عام 2005، بإمضاء من زوجها الموسيقي الأوكراني ليونيد أليكسيانكو.
دائماً يقع المبدع الفلسطيني في إشكالية "المقاومة أم الإبداع؟"، جدلية تسحب المبدع في دوامة لا نهائية، أغلب المبدعين الفلسطينيين وقعوا في تلك الإشكالية، وكل الحلول صحيحة، كل الحلول مغامرة، وكل الإجابات صحيحة، فكيف ستتحرك؟ كيف تستطيع أن توفّق بين عالم الإبداع الواسع، ودورك في المقاومة كمبدع؟
في الموسيقى خرجت كاميليا جبران من عباءة فرقة صابرين ومن أغاني المقاومة الصريحة، إلى ساحة الإبداع الأكبر، خرجت لتعبر عن القضايا الشخصية والفلسفية، التي منها بالطبع القضية الفلسطينية أمام المحتل المغتصب. لكن مع ريم وعند النظر إلى مشوارها الفني، نجدها بين العالمين، لم تستطع التخلي عن مقاومتها، وإعلانها ذلك بكل الطرق الممكنة، إذ سخَّرَت الفن للمقاومة، والدفاع عن أبناء القضية واللاجئين. ولكنها في نفس الوقت كانت تصبو دائماً إلى الدخول في تجارب جديدة، لكن بشكل بطيء للغاية.
استغرقت 12 عاماً بين الخطوة الأولى ألبوم "حلم" والخطوة الثانية "مرايا الروح"، رغم أنها قدمت عدة ألبومات في تلك الفترة، لكن كانت روح المقاومة طاغية بشكل أكبر، لم تمهل التجربة حقها، وخرجت تهرول للمقاومة والغناء كي تقول نحن هنا، تغني كي تُثبِت ما قاله درويش "خوف الطغاة من الأغنيات".
غنّت ريم لأغلب شعراء فلسطين الكبار، وغنت لوالدتها الشاعرة زهيرة الصباغ كثيراً من الأغاني، كانت الكلمة دائماً عند ريم مميزة، تعرف كيف تختارها، بخاصة عندما تبتعد عن المقاومة المباشرة والصريحة، عندما ترى المقاومة في كل شيء حولها وفي يومها العادي. وعندما جاء الربيع العربي بما يحمل من نهج المقاومة، سرقتها حماسته إلى جانب حماستها للمقاومة ومرض السرطان حتى أخذوا من طاقتها الفتية.
في "تجليات الوجد والثورة" وهو ألبومها الأخير قبل إصابة صوتها، كان يحمل كثيراً من التجربة في اختيار الكلمات رغم روتينية بعض الاختيارات مثل "أحبك حبين" التي قُدّمَت بكل الطرق في السنوات الأخيرة، لكن كانت هناك كثير من الاختيارات الجديدة مثل "أثر الفراشة" لمحمود درويش وقصيدة "الغائب" للشاعر الفلسطيني غير المشهور عربيّاً راشد حسين.
لكن بكل أسف جاءت الألحان والتوزيعات نمطية بشكل كبير، ركزت ريم مع الكلمات وكيف تعبّر عن الثورة وتغافلت عما تصنعه الموسيقى من الأساس، فجاء الألبوم نمطياً عادياً. لقد استولت المقاومة على ريم وعلى ذهنها.
كانت ريم تملك صوتاً وحماساً كان يمكن أن يُخرِج إلينا أعمالاً أكثر بكثير مما قدمت وأكثر ثقلاً وجودة، لكنها حياة اختيارات، وريم اختارت المقاومة، والفن طريق لذلك، لذلك كانت تردّد أغنية الشيخ إمام "هنغنّى ودايماً هنغنّى .. ونبشّر بالخير ونمنّي .. ونلف الدنيا الدوّارة .. على صوت النغمة الهدّارة" عندما عرفت أنها لن تستطيع أن تغني مرة ثانية، كانت المقاومة هي سبيلها الأخير، المقاومة أمام الحياة والمرض والموسيقي.
لترحل ريم تاركة أغاني لن تنسى، وصوت عذب يأخذك إلى حارات الناصرة وحيفا، إلى تراب فلسطين وتاريخها العريق، وأن كنت لا تعرف شيئاً عن فلسطين، فشكراً لكِ وسلامٌ عليكِ يوم وُلدتِ ويوم رحلتِ عنَّا.