غزة ـــ بخطواتٍ بطيئة، تتبع نزيهة أخاها صهيب متوجّهةً نحو الأرض التي يعملان بها طول اليوم، شرق مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة. هذه الأرض هي مصدر رزقهما الوحيد، والعكازتان لا تفارقان يدَي نزيهة وصهيب. إنّهما الوحيدتان اللتان يرمي عليهما هذان الأخوان ثقل جسديهما وأوجاعهما دون أن تشتكي. وبين كل ابتسامةٍ ونظرة يتبادلانها، تخرج تنهيداتٌ عميقة تحمل معها الكثير من الألم.
رصاصةٌ متفجرة
نزيهة قديح (38 عاماً) وعازبة، فقدت قدمها اليمنى خلال مسيرات العودة التي بدأت منذ 30 من مارس/آذار العام الماضي، فهي تعمل مزارعةً مع أخيها صهيب الذي أصيب أيضاً في مسيرة العودة، ولكنْ، لكلّ إصابةٍ حكايةٌ يرويها صاحبها.
تحكي نزيهة لـTRT عربي عن لحظة إصابتها في منتصف شهر مايو/أيار العام الماضي قائلة "شاركت منذ البداية في مسيرة العودة، ولم أكن أتوقع أن أصاب بطلقٍ ناري متفجّر، كنتُ أنقل الماء للشباب على الحدود. وعند ساعات العصر أصيبت قدمي اليمنى، وحين رأيتها وهي تنزف دماً، تيقنت أنه بتر. وحين عاد وعيي في المستشفى، رأيتُ نفسي بلا قدم".
لم يكن تأثير فقدان نزيهة لقدمها بالبسيط على حياتها، فهي تشعر الآن كأنّ حياتها لم تعد موجودةً أبداً.
"أفتقد جلساتي مع الجيران والأهل، فأنا لا أستطيع الخروج من المنزل أبداً، أصبحت أكره السرير كثيراً وجسدي يتألم من النوم عليه، وكأنّ حوافّ السرير تركت علامات ألم على جسدي، فقدت النشاط والحركة والابتسامة، لم أعد نزيهة التي كانت قبل الإصابة، تلك المرأة التي تقضي ساعات طويلة خارج المنزل"، تصف نزيهة حياتها بعد الإصابة بصوت مخنوقٍ من الألم.
أكملت مسيرة العودة عامها الأول، إذ بدأت نهاية مارس/آذار من العام الماضي، حيث خرج عشرات الآلاف من المواطنين في غزة من مختلف الأعمار نحو الحدود الشرقية الفاصلة بين قطاع غزة وأراضي عام 1948، وطالبوا بحقّهم في العودة.
هذه المسيرة، على الرغم من سلميتها، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي استخدم فيها القوة بإطلاق الرصاص وقنابل الغاز على المتظاهرين.
العكاز.. الرّفيق الأبدي
تخونها عيونُها وتفضح أوجاعها حينما تبكي على نفسها وتحنّ إلى حياتها
السابقة، لكنّها ما تلبث أن تتراجع عن ذلك، وتحمد ربّها أنّ أنفاسها لم تنقطع بعد،
وأنّها لا تزال موجودة بين عائلتها ووالديها.
تتنقّل نزيهة اليوم، إما باستخدام الطرف الصناعي أو العكازتين اللتين لا تفارقانها أبداً، تردّد كلماتها "أشتاق كثيراً إلى نفسي قبل الإصابة، ودائماً أشعر بأن هناك جزءاً فقدته كأنّما أفقدني الحياة بأكملها، ليس من السهل أن تكون شخصاً مفعماً بالحيوية، ثم تتحول فجأة إلى سجين العكازة والطرف الصناعي".
تعودت نزيهة منذ صغرها على الذهاب إلى الأرض، حيث تزرع وتفلح فيها وتهتم بها دائماً. وقبل الإصابة بيومين كانت تحصد البازلاء، فهي تعتبر الأرض منفسها الوحيد الذي تحاول الحفاظ عليه بعد الإصابة.
تقول "قبل إصابتي، كنتُ أذهب إلى الأرض من الصبح حتى المساء أهتم بها وأروي المحصول وفي وقت الحصيدة لم نتركها لحظة أنا وأخي صهيب، فهي مصدر رزقنا، ولكن بعد الإصابة لم أعد قادرةً على العمل لساعاتٍ طويلة لأن قدمي تؤلمني كثيراً، والطرف الصناعي لا يساعدني بشكل كبير على حرية الحركة والتنقل كما كنت في السابق".
صهيب.. إصابة متشابهة
صهيب قديح (32 عاماً)، أبٌ لستة أطفال أعمارهم دون العشرة. يعتبر مهنة الزراعة الموروث الذي أخذه عن والده. أخته هي مرافقته الدائمة فيه. يعملان معا في الأرض في جميع مواسم المحاصيل منذ ساعات الصباح حتى المساء. ويكمل صهيب مهمته في السوق لبيع محصوله.
أصيب صهيب في قدمه اليمنى في الجمعة الأولى من مسيرات العودة نهاية مارس/آذار العام الماضي، حيث تشابه هو وأخته في مكان الإصابة. كلاهما بُترت قدمه اليمنى، عندما أصيب صهيب في قدمه كان يحاول إسعاف فتاة أصيبت في المكان.
"ذهبت للمشاركة في مسيرة العودة، لأنّها مسيرة سلمية، ولكن تغيرت الأحداث على الحدود وأطلق الجنود الإسرائيليين الرصاص نحو المتظاهرين، وكانت أمامي فتاة مصابة ركضت نحوها لكي أسعفها، فأصبت برصاص متفجر في قدمي اليمنى قبل الوصول إليها، ما أدى إلى بترها على الفور"، يحكي صهيب لـTRT عربي.
حسب وزارة الصحة في غزة، فإنّ الجيش الإسرائيلي استخدم الرّصاص المتفجر خلال مسيرة العودة، وهو نوع من الرّصاص يدخل الجسد ويتفجر بداخله، أمّا حالاتُ البتر فتحدث فور الإصابة، لأنّه يؤدي إلى تفتيت العظم. نفسُ الشيء حدث مع نزيهة.
ألم اللقاء الأول
تبعاتُ الإصابة كانت موجعة بالنسبة لصهيب من جميع النواحي، سواء على عائلته وعمله، بل حتى على نفسيته.
لكنه اختار أن يقاوم العقبات بنفسه. وكانت البداية مع عمله في الزراعة.
يقول بإصرار "في الفترة التي أصبت بها، كان موسم حصاد القمح، وهو ما تعبنا في زراعته أنا وأختي وكنا ننتظر الحصاد بفارغ الصبر. وحين أصبت، لم أجد أحداً يساعدني بالقيام بحصاد القمح وبيعه، فأجبرت على القيام من سرير المرض إلى الأرض لكي أحصد القمح بمساعدة أختي نزيهة، كنت أتألم كثيراً وأنا أعمل وأنظر إلى أختي المتعبة".
يسكت قليلاً، ثم يردف "قاومنا ذلك سوياً، لأننا نعلم أننا لن نجد أحداً يساعدنا إن لم نساعد أنفسنا ونعول عائلتنا وأطفالنا".
كان الألم الأكبر بالنسبة لصهيب عندما دخل إلى بيته لأول مرّة بعد بتر قدمه ولم يجد الاستقبال الذي ينتظره، لقد خاف أطفاله الستة لدرجة لم يستطيعوا الاقتراب إليه. كان مؤلماً بالنسبة له أن ينجو من الموت ويجد الخوف في عيون أفراد عائلته.
كان عليه أن يشرح لأطفاله كلّ يوم أنه شخص عادي، وأن شيئاً لم يتغير. بعد أسبوعين، استطاع صهيب احتضان أطفاله من جديد.
حسب وزارة الصحة، فإنّ مسيرة العودة خلّفت أكثر من 30 ألف مصاب، تفاوتت إصاباتهم بين المتوسطة والخفيفة. وقد حدثت أغلب الإصابات أثناء قنص الجنود للمتظاهرين هناك. نفسُ الأرقام تبيّن أنّ من بين الجرحى أطفالاً وشباباً ومسنّين ونساء، وأنّ أكثر من 136 حالة تعرّضت للبتر، من بينها 122 بُتِرت أطرافُها السفلية.
محاولات عيش
لم يعد صهيب يفكر في نفسه بعد الإصابة بقدر ما يفكّر في أطفاله، بخاصّة مع تغيّر الظروف في قطاع غزة، وعدم استقرارها. فالحربُ الأخيرة جعلت صهيب يشعر بالعجز أمام أطفاله وعائلته.
يقول "في الأحداث الأخيرة التي مررنا منها، كنت خائفاً جداً على أطفالي. وإذا حصلت حربٌ جديدة، فلن أستطيع حملهم والركض بهم في الشارع نحو مكانٍ أكثر أماناً، يمكن أن يحصل أيّ شيء في أي لحظة، ولن أكون قادراً على حمايتهم".
أثّرت الإصابةُ على الحالة النفسية لصهيب ونزيهة. فكلاهما لم يعد يتحمّل أي ظرف سيئ. فالأثر النفسي للحادثة لا يزال مسيطراً على حالتهما المزاجية. لكنّهما يحاولان التخفيف عن بعضهما.
هذا، ولا تزال مسيرات العودة مستمرةً في قطاع غزة، يطالب من خلالها الفلسطينيون بحق العودة وتلبية متطلباتهم بالعيش في كرامة.
خلال نفس المسيرات، أصيب حوالي ثلاثين ألف مواطن وقُتل 266، من بينهم صحفيون ومسعفون، وآخرون انتهت حياتهم بفعل طلقة رصاص. أما الجرحى فقد تغيرت أقدارهم بعد الإصابات التي غيرت مسار حياتهم، كما حصل مع صهيب ونزيهة. ومع ذلك، تُكمل المسيرات مسارها بشعاراتها السلمية، ومطالبها بنيل الحقّ في الكرامة.