لم تتجاوز أعمارُ بعضهم ثلاث سنوات، وهم الآن رفات 182 طفلًا، تشهد على بشاعة جرائم الإبادة التي ارتكبت في حق سكان الأمريكيتين الأصليين. هذا ما كشفت عنه المقابر الجماعيّة المكتشفة مؤخراً بمبنى مدرسة "كاملوبس إنديان ريزيدنشيال" ببريتيش كولومبيا الكنديَّة، حيث كان هؤلاء الأطفال يحتجزون بوحشيَّة، منتزعين من أحضان آبائهم، وملقى بهم إلى قاعات داخليات الغسل الدماغي والإبادة الثقافية الممنهجة.
في وجه ذاكرة المآسي، يرفض دعاة مناهضة العنصرية تخليد "الجلادين" في نصب تذكاريّة، لذلك أخذ تقليد تخريب تماثيل الشخصيات التاريخية الضالعة في مثل تلك الأحداث، نهج احتجاج للحركات المنتصرة للحق في الإنصاف التاريخي لتلك الشعوب، سوداً كانوا أم أمريكيين أصليين، كما أنه محاكمة مؤجَّلة لميراث تلك الشخصيات الدَّموي. حيث نراه يتجدد مع كل صعود لقضيّة من هذا النوع، حدث قبلاً خلال الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد، وها هو يتكرَّر في كل من كندا وكولومبيا.
حطَّمو الملكة فيكتوريا، وأزالوا كولومبوس!
في رد فعل على الاكتشاف المؤلم لمقابر أطفال السكان الأصليين بمدرسة "كاملوبس إنديان ريزيدنشيال"، خرج المحتجون ليملؤو الشوارع الكنديَّة. من بينها شوارع مدينة مينيتوبا، حيث احتشدوا معتمرين اللون البرتقالي تكريماً للضحايا، ملتفين حول نصب تذكاري يحوي تمثالين، أحدهما للملكة فيكتوريا، والآخر للملكة إليزابيث.
"كنا أولئك الأطفال في يوم ما! أعيدوهم إلى بيوتهم!" هذه العبارات التي كتبها المحتجون على أطراف التمثالين، قبل أن يغرقو رأسيهما باللون الأحمر، في دلالة على تورط الشخصيَّتين في تلك الأعمال الشنيعة. كما خُرِّب تمثال الملكة البريطانية الحاليَّة بشكل كامل، ورُمي على الأرض. فيما رأى المحتجون في الشخصيتين الملكيتين رمزاً للتاريخ الكولونيالي لبلادهم، بما أن كندا تابعة للتاج البريطاني.
بالتزامن مع هذه الوقائع، وهذه المرة إلى القارة الأمريكية الجنوبية، خُرِّب تمثالان لكريستوف كولومبوس بالبلد الذي سُمي على اسمه: كولومبيا. وأتت هذه الأعمال في خضم موجة الاحتجاجات العنيفة التي تعرفها البلاد، حيث عزم محتجون بمنطقة بارانكيّا على ربط التمثالين بحبال، وشدهما إلى الأرض. فيما علَّق عمدة المقاطعة بأن "المتورطين في هذا الفعل التخريبي سيقدمون إلى العدالة".
لماذا يحاربون التماثيل؟
ليست وحدها تماثيل كولومبوس التي تعرَّضت للتخريب في كولومبيا، فقبلها، وطوال مدَّة الاحتجاجات الأخيرة، تعرضت تماثيل أخرى للتخريب تعود إلى مكتشفين من حقبة الغزو الإسباني الأول للبلاد. بالنسبة إلى المحتجين الكولومبيين، فإن هذا التخريب يأتي بعد محاكمة شعبية طويلة للشخصيَّة صاحبة التمثال، والتي تخلص في أغلبها بالإدانة في جرائم الإبادة الجماعية والاتجار بالبشر والاغتصابات وسرقة الأراضي، وبالتالي يأتي الحكم بأن ذلك النصب يجب أن يخرَّب.
يرى مراقبون أن رمزيَّة عمليات التخريب هذه بالنسبة إلى المحتجين تبرز كانتصار للعدالة التاريخية في حق أولئك المضطهدين، سواء كانوا من السكان الأصليين أو من ذوي الأصول الإفريقية، ضد من سطع اسمهم طوال التاريخ ذاته رموزاً للاستعمار والاستعباد والمجازر الدمويَّة. كما تأتي في صيغة العزاء، إذ حضور تلك الشخصيات بتلك التشريفات في المجال العام، يجدد الآلام المتوارثة للشعوب التي عانت ظلمهم ذاك.
هذا وعرفت السنة الماضية، تزامناً مع مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصول إفريقية، أزيد من عشرين واقعة تخريب في كل أنحاء العالم، لتماثيل شخصيات ارتبطت بتجارة الرق أو الاستعمار، وما زالت تعتبر لحد الآن رموزاً لدعاة السمو العرقي والجماعات اليمينية العنصرية.