بعيداً عن حملات الترهيب التقني.. كيف يمكن للذكاء الصناعي تحسين حياة البشر؟
رغم عمليات الترهيب التقني التي تمارس من الكثيرين بخصوص الذكاء الصناعي والتي انتشرت على نطاق واسع، كان هناك بعض الأصوات التي تنظر إلى هذا التطور التاريخي بطريقة متزنة وأكثر موضوعية.
FILE PHOTO: Illustration shows Google logo and AI Artificial Intelligence words / صورة: Reuters (Reuters)

بعد إطلاق نموذج ChatGPT من شركة OpenAI، وحالة الهلع التي اجتاحت العالم، سارع عدد من كبار خبراء الذكاء الصناعي إلى تقديم عريضة تطالب الشركات المطورة لنماذج الذكاء الصناعي التوليدي بالإبطاء لمدة ستة أشهر، لاحقاً تبين أن فترة الأشهر الستة بحدّ ذاتها كانت مثيرةً للسخرية من ناحية، ومثيرةً للجدل من ناحية أخرى.

فستة أشهر قليلة جداً لإحداث أي إبطاء حقيقي في تطوير هذه التقنية فائقة الذكاء، وبالوقت نفسه تدل على أهمية الوقت كعامل حاسم عندما يُتعاطى مع أنظمة الذكاء الصناعي التي تتطور بشكل أسّي. لم تلق هذه العريضة آذاناً مصغية، فقد تطورت هذه الأنظمة بوتيرة سريعة، فدخل على الخط سريعاً ChatGPT4، وBard من شركة جوجل، وأخيراً وليس آخر LLaMA من شركة ميتا. كما يستعد إيلون ماسك إطلاقة شركته الجديدة XAI.

ورغم عمليات الترهيب التقني التي تمارس من الكثيرين بخصوص الذكاء الصناعي والتي انتشرت على نطاق واسع، كان هناك بعض الأصوات التي تنظر إلى هذا التطور التاريخي بطريقة متزنة وأكثر موضوعية. من هذه الأصوات على سبيل المقال بيل غيت الذي كتب مقالاً عنونه بـ"مخاطر الذكاء الاصطناعي: كيف نتعامل معها؟" جادل بأن المخاطر الناجمة عن الذكاء الصناعي وإن كانت مشروعة وينبغي أن "تأخذ على محل الجد" إلا أن هناك سبباً "وجيهاً للاعتقاد بأنه يمكننا التعامل (معها)، فهذه ليست المرة الأولى التي يقدم فيها ابتكار رئيسي تهديدات جديدة يجب السيطرة عليها، لقد فعلناها من قبل".

ترتكز الأصوات التي تتصف بالموضوعية في حجبتها على النظر إلى الجوانب الثورية في مجال التحسين التي سيقدمها الذكاء الصناعي للبشرية على المستويات كافة، فنحن أمام تكنولوجيا تحويلية من الطراز الفريد سيؤرخ لها لاحقاً، فالذكاء الصناعي يسير نحو أن يكون روح العصر الحالي كما كان المنطق هو روح عصر التنوير، وكما كانت "الماكنة" روح العصر إبان الثورة الصناعية.

يكمن أحد أهم المجالات الذي سيخدم بها الذكاء الصناعي البشر في خاصيتي الإمكانيات Potentiality، والتوقعات Predictability اللتين تنطوي عليهما هذه التكنولوجيا، وستؤدي هاتان الخاصيتان إلى تمكين البشر من تعمق وتوسيع فهمهم للواقع الذي يعيشون فيه من جانب، وتقديم حلول وطرق لم يكن في مقدور البشر الوصول إليها، أو لا يملكون الإمكانيات للوصول إليها من تلقاء أنفسهم. بكلمة أخرى، سيتمكن الإنسان من التعرف على أوجه جديدة للحقائق والواقع الذي يعيشون فيه، وسبر أغوار الجواب المعتمة من الحياة والتي لم يمسها من قبل ضوء العقل البشري.

لمحاولة تقريب الصورة من الاستيعاب يمكن الاستعانة بمثال حقيقي وقع قبل عدة سنوات.

ففي نهاية عام 2017، كان العالم على موعد مع حدث ثوري، فقد تفوق برنامج الذكاء الصناعي الذي طورته شركة DeepMind (التابعة لشركة جوجل) ويدعى "ألفا زيرو" (AlphaZero) على ستوك فيش (Stokfish) وهو أقوى برنامج في لعبة الشطرنج على مستوى العالم حتى تلك اللحظة، ولتأكيد جدارته، تفوق "ألفا زيرو" بعد سنة (أي عام 2018) على بطل العالم في اللعبة ستوكفيش وذلك بعد أن خاض معه ألف مباراة فاز بـ 155 منها، وخسر ستاً فقط وتعادل في البقية. لاحقاً وفي عام 2021 تعرض أيضاً بطل العالم "لي سيدول" للهزيمة من "ألفا زيرو" الأمر الذي دفعه إلى الاعتذار من جماهيره بسبب إخفاقه مثمناً خصمه الآلي بالقول إنه قد يظهر للبشر شيء لم يكتشفوه بعد، وإن ذلك ربما يعد "أمراً جيداً".

كان هذا الحدث ربما الأبرز في هذا المضمار منذ أن فاز برنامج "ديب بلو" Deep Blue من IBM على بطل الشطرنج العالمي غاري كاسباروف عام 1997. ولكن ما يثير الدهشة في برنامج "ألفا زيرو" أنه مختلف عن نظرائه من حيث التكوين وآليات العمل والقدرات.

في العادة تعتمد البرامج التقليدية مثل "ديب بلو" على البشر في برمجتها وصياغة حركتها والتحكم في مدخلاتها، وذلك بناء على الحركات والخبرة والتكتيكات التي راكمها اللاعبون البشريون على مدار سنوات. تنبع ميزة هذه البرامج التقليدية على الفوز من قدراتهم الفائقة على معالجة البيانات التي توظفها لتقديم العديد من الاحتمالات في إطار زمني معين. وهنا عند هذا الحد في الضبط تتوقف إمكاناتهم، إذ تخلو برمجياتهم من عنصري الأصالة والأسبقية في توليد احتمالات من بيانات أو تعليمات لم تدرج في خوارزمياتهم بشكل مسبق.

على النقيض تماماً من هذا يقف برنامج "ألفا زيرو" المزوّد بتقنية التعلم الآلي، فجميع تحركاته واستراتيجياته التي أداها كانت نتاجاً من عملية توليد ذاتي بشكل تام، إذ لم يكن للبرمجة البشرية المسبقة أي دور فيها. فقد زوّد مطورو البرنامج قواعد لعبة الشطرنج ووجهوا لتطوير استراتيجية لعب تلقائية تؤدي في نهاية المطاف إلى الفوز. وبعد تدريب ذاتي لمدة أربع ساعات فقط (حسب ما ورد في كتاب The Age of AI And Our Human Future) طور البرنامج تحركات جديدة كلياً في عالم الشطرنج أبهرت جميع الخبراء، وأدت في النهاية إلى ظهور برنامج فائق القدرة لم يستطع أي لاعب بشري التغلب عليه.

لقد استطاع البرنامج اجتراح حركات لم يبرمجها البشر سابقاً، وفي العديد من الحالات لم تخطر على بالهم بالأساس. شكل هذا مصدراً للدهشة ارتسمت على وجوه المراقبين، لقد كانت حركات البرنامج جريئة وصلت إلى حد التضحية بالملكة في خطوة لا يلجأ إليها اللاعب البشري بالعادة. فقد "توصل من خلال تعلمه الذاتي إلى أن مثل هذه التكتيكات الجريئة من شأنها زيادة نسبة الفوز".

بالنسبة للخبراء والمراقبين، فإن ما أثار الدهشة أيضاً أن "ألفا زيرو" تجاوز المنطق الإنساني التقليدي في تناول اللعبة، إذ طوّر منطقه الخاص، وذلك عبر قدرته على تحديد الأنماط التي تعد أوفر حظاً للفوز من خلال استثمار مجموعة هائلة من الاحتمالات التي تتجاوز ببساطة الإدراك البشري أو قدرته على تنفيذها أو معرفتها. دفع هذا الأسلوب بطل الشطرنج غاري كاسباروف إلى الاعتراف بأن البرنامج قد "هزّ اللعبة من صميمها". فمن خلال الدفع باللعبة إلى حدودها القصوى، لم يكن لدى اللاعبين المحترفين فعل أي شيء إلا النظر إلى برنامج "ألفا زيرو" لأغراض المراقبة والتعلم.

ما يجب ملاحظته في تجربة "ألفا زيرو" هو أن برنامج الذكاء الصناعي لم يقم بتحليل البيانات بسرعة تفوق قدرة البشر بشكل هائل، وحسب بل اكتشف أيضاً – وهذا المهم- جوانب من الواقع لم يرها البشر مسبقاً أو ربما لم يتمكنوا من رؤيتها أو حتى إدراك أنها موجودة من الأساس. وعلى الرغم من أن البشر غير متأكدين بعد من الكيفية التي توصل بها الذكاء الصناعي إلى معرفة وقائع اللعبة بهذه الطريقة، فإن هذا الأمر من شأنه أن يمهد الطريق للإنسان لإعادة اكتشاف وتعريف الواقع الذي يعيش فيه، ومنح الحقيقية بعداً جديداً لم يكن معروفاً من قبل، وهو أمر سينعكس في نهاية المطاف إيجاباً على المشروع التقدمي للبشرية الذي اتخذ طابعه الحديث منذ بداية عصر التنوير.

يجادل العديد من الخبراء بأن الذكاء الصناعي يتفاعل مع العالم المادي المحيط بنا بشكل مختلف عن تفاعل البشر. يحمل هذا مؤشراً مهماً على أن هذه التقنية قادرة على إدراك جوانب من الواقع لا يستطيع البشر إدراكها من تلقاء أنفسهم. وبعيداً من الجدلية الأخلاقية في إنشاء تكنولوجيات قادرة على التفوق علينا، سيفتح هذا البعد في الذكاء الصناعي أمام البشر احتمالات لم يكونوا يتوقعونها في السابق، قد تسهم بشكل كبير في المعالجة والتصدي للعديد من المشكلات التي يواجهونها وخصوصاً على صُعد الأزمات الكونية من قبيل ارتفاع درجات الحرارة والأوبئة ونقص الغذاء والأمراض المزمنة والخطيرة كالسرطان وغيره.

من حيث جوهر العملية، لا يعد الذكاء الصناعي استثناء، لقد ساهمت التكنولوجيا على مدار تاريخ البشرية في تعزيز قدرة الإنسان على اكتشاف وفهم واقعه الذي يعيش فيها، وإعطاء معنى للحقائق التي تحيط به، ما يعد استثناء في حق الذكاء الصناعي هو أنه يأخذنا لأبعاد جديدة تماماً، ويضع قواعد تفكير مختلفة لم يعهدها البشر من قبل.

لذلك ليس من باب المبالغة اعتبار تكنولوجيا الذكاء الصناعي من صنف التكنولوجيات التحويلية، إنها ببساطة تعمل على تحويل واقع البشر تماماً كما فعلت آلة الطابعة سابقاً، وتعيد رسم وتحديد مكانة البشر في الوجود كما أعادت ثورة كوبرنيكوس مكانة الأرض في المجرة.

لذلك بدأ العلماء بالحديث عن نهاية عصر مركزية الإنسان وبداية حقبة "ما بعد الإنسان" أو عصر "مركزية الآلة". لا شك أن الذكاء الصناعي سيتداخل مع البشر في مجالات حياتهم كافة، ففي بعض الأحيان سيعمل على تحويل بعض المجالات بشكل كامل، وفي أحيان أخرى سيكون هناك شراكة بين البشر والآلة، أيا كان السيناريو، يجب أن ندرك بأن "شريكاً" جديداً، يمتلك قدرات فائقة في مجالي التفكير والإدراك، قد أصبح أمراً واقعاً ومعيشاً في حياتنا نحن كبشر.

تظهر تجربة "ألفا زيرو" أن الذكاء الصناعي لم يعد مقيداً بحدود المعرفة البشرية الحالية. مع مرور الأيام سيكون البشر في مواجهة حلول جديدة وثورية يقدمها الذكاء الصناعي تفوق خيالهم. يحتم المنطق أن يستثمر البشر هذه التكنولوجيا في عمليات تحسين حياتهم والتغلب على مشكلاتهم ومحاولة إعطاء الحياة معنى مختلفاً عما سبق. وفق هذا المنطق، سيبقى الذكاء الصناعي رغم تفوقه على البشر من حيث الأداء في خدمتهم، ولذلك تعد فرضيات انتقال المركزية من الإنسان إلى الآلة مجرد زخرفة اصطلاحية.

إن ظهور الآلات الذكية التي يمكن أن تحاكي التفكير البشري سيعيد تشكيل كل من البشر والآلات على حد سواء، أي تحول الآلة من "أداة" إلى "شريك". ستنير الآلات جوانب مظلمة من واقع الإنسان، وتوسع فهمنا للواقع بطرق غير متوقعة. في المقابل، سيستمر الإنسان في تطوير الآلات الذكية القادرة على تقديم حلول واستنتاجات فائقة، ولديها القدرة على التعلم الذاتي لملاءمة أدائها مع حاجات الإنسان.

TRT عربي