بصوتٍ حازمٍ وصورة مظلمة ومن جانب واحد، ظهر قائد هيئة أركان كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس، "أبو خالد" أو "محمد الضيف" في مقطع فيديو ليعلن عن بدء عملية "طوفان الأقصى" المباغتة ضد إسرائيل، في موقف لم تختبره منذ العبور المصري عام 1973.
الشبح محمد الضيف
يُعرف محمد الضيف، الملقب بـ"وزير الدفاع" لدى الفلسطينيين، بكونه شخصية غامضة وغير معروفة تماماً للعامة. يفضل الضيف الابتعاد عن الأضواء والظهور بشكل مجهول، وهو الأمر الذي جعله يشتهر بلقب "الشبح".
منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، لم يظهر الضيف في الأماكن العامة، وبالتالي لا يعرفه أحد إلا أفراد عائلته وعدد قليل من أعضاء حركة حماس. في الواقع، حتى هؤلاء الأشخاص الذين يتعاملون معه يجدون صعوبة في تحديد مكانه الحقيقي، فعندما يُسأل سكان غزة عنه، يجيبون بتلك العبارة: "لو نظرنا إليه ما عرفناه".
ثمة ثلاث صور للضيف متوفرة؛ الأولى قديمة جداً، والثانية تُظهره ملثماً، والثالثة تعرض ظله فقط. وحتى الاستخبارات الإسرائيلية، التي تتباهى بأنها أقوى استخبارات في العالم، لا تملك صورة حديثة له.
يعدّ الضيف منعزلاً تقنياً، وربما يمكن تفسير هذا الأمر بالحذر الشديد الذي يتخذه فيما يتعلق بالأمن. وهو ما يثير تساؤلات حول كيفية فشل إسرائيل في القبض عليه عدة مرات على مدار 30 عاماً.
إن بقاء محمد الضيف على قيد الحياة يرجع بشكل أساسي إلى نجاحه في التمويه والتخفي، حيث تعود أحدث صورة رسمية له إلى أكثر من عشرين عاماً. وفي زمن يكون فيه عمر مسؤول عسكري قصيراً جداً في كثير من الأحيان، يعدّ بقاء محمد الضيف على قيد الحياة أمراً مثيراً للاهتمام ويشكل تحدياً لإسرائيل.
وقد اختير له لقب "الضيف" بسبب عدم استقراره في مكان واحد لأكثر من ليلة واحدة، حيث يبيت في منازل مختلفة في كل مرة للهروب من محاولات الاعتقال الإسرائيلية. ويفيد بعض المصادر الأخرى بأن الضيف يُنسب اسمه إلى وجوده المستمر في الضفة الغربية.
نشأة محمد الضيف
محمد الضيف، الملقب بـ"أبو خالد" والمعروف بلقبه "الضيف"، هو فلسطيني وُلد في غزة عام 1965. ينتمي الضيف إلى أسرة فلسطينية لاجئة التي هُجرت عام 1948 من قرية كوكبا إلى غزة بعد النكبة الفلسطينية. نشأ الضيف في مخيم خان يونس للاجئين، وظل يعيش فيه طوال حياته.
تربَّى الضيف في أسرة فقيرة جداً، وعمل إلى جانب والده في مجال الغزل والتنجيد. أنشأ أيضاً مزرعة لتربية الدواجن وعمل سائقاً. اضطر في بعض الأحيان للتوقف عن الدراسة لمساعدة أسرته في تأمين احتياجاتها.
حصل الضيف على درجة البكالوريوس في علم الأحياء من الجامعة الإسلامية في غزة عام 1988. كان لديه اهتمام بالفن والمسرح في أثناء دراسته الجامعية، وقد شكّل فرقة فنية تحت اسم "العائدون".
تأثر الضيف بالفكر الإسلامي خلال فترة دراسته الجامعية وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان ناشطاً بارزاً في الكتلة الإسلامية. فيما بعد، انضم إلى حركة حماس وأصبح أحد أعضائها الميدانيين المهمين.
التحاق محمد الضيف بحماس
انضم محمد الضيف إلى حركة حماس في ثمانينيات القرن الماضي، بمساعدة يحيى عياش المعروف بلقب "المهندس"، الذي كان أحد القادة البارزين في حماس.
وبعد اغتيال يحيى عياش على يد المخابرات الإسرائيلية عام 1996، تصاعد دور الضيف كقائد مهم في كتائب عز الدين القسام، التنظيم العسكري لحماس. وتولى الضيف دور المهندس المسؤول عن تنفيذ العمليات الانتحارية داخل إسرائيل خلال التسعينيات، وقاد سلسلة من العمليات كردّ فعل على مقتل يحيى عياش، وأسفرت هذه العمليات عن مقتل أكثر من 50 إسرائيلياً.
وبسبب تأثيره المتزايد داخل حماس، عُيِّن الضيف قائداً للجناح العسكري للحركة عام 2002، بعد اغتيال قائدها العام صلاح شحادة.
كان للضيف دور بارز في بناء الأنفاق التي سمحت لمقاتلي حماس بالتسلل إلى الداخل الإسرائيلي من غزة. كما أسهم في تعزيز استراتيجية إطلاق الصواريخ على إسرائيل، بهدف تحقيق أكبر قدر من الضرر والتأثير.
سجن محمد الضيف
اعتقلت السلطات الإسرائيلية محمد الضيف عام 1989، وقضى في السجون الإسرائيلية مدة تصل إلى 16 شهراً دون أن يمثل أمام المحكمة، بتهمة الانتماء إلى الجهاز العسكري لحركة حماس الذي أسسه القائد صلاح شحادة. لاحقاً، أُفرج عن الضيف، ولم تُذكر أي مصادر عن تعرضه للاعتقال مرة أخرى.
تزامن خروجه من السجن مع ظهور كتائب القسام بشكل بارز في المشهد الفلسطيني للمقاومة، حيث نفّذت عدة عمليات ضد أهداف إسرائيلية في التسعينيات.
وقد تعرض محمد الضيف أيضاً للاعتقال من السلطة الفلسطينية في مايو/أيار 2000، ولكنه تمكن من الهروب خلال اندلاع انتفاضة الأقصى، التي تعدّ نقطة تحول في تطور أداء الجناح العسكري لحركة حماس.
محاولات اغتيال محمد الضيف
منذ منتصف التسعينيات، كان محمد الضيف هدفاً مطلوباً لإسرائيل، وطالب شمعون بيريس، الذي كان رئيساً للوزراء عام 1996، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بتوقيفه. لكنّ عرفات أعرب عن استغرابه من الاسم كأنه لا يعرفه، وبعد ذلك اعترف بيريس بأنه اكتشف أن عرفات كان يحمي الضيف ويخفيه ويكذب بشأنه.
حاولت إسرائيل اغتيال الضيف عدة مرات، ولكنها فشلت في كل مرة، وأرجعت فشلها إلى حذر الضيف الشديد والغموض الذي يحيط به.
على الرغم من لقبه "القائد البطل" الذي يطلقه عليه أهالي غزة، ونجاحه في البقاء على قيد الحياة في السنوات الماضية، فإنه تعرض لمحاولات اغتيال خطيرة في أعوام 2001 و2002 و2003 و2006 و2014.
تعرض لأول محاولة اغتيال عام 2001 ولكن نجا منها. وبعد عام واحد، تعرضت مركبة الضيف لاستهداف من مروحية أباتشي أطلقت صاروخين عليها، وأصاب أحدهما الضيف بجروح. عولج في مكان غير معروف بواسطة الطبيب عبد العزيز الرنتيسي، قائد حماس السابق الذي اغتيل عام 2004 وكان طبيباً أيضاً.
وكانت واحدة من أشهر محاولات اغتيال الضيف في أواخر سبتمبر/أيلول 2002، حيث اعترفت إسرائيل بأنه نجا بأعجوبة عندما قصفت مروحياتها سيارات في حي الشيخ رضوان بغزة، بعد أن أكدت في البداية أن الضيف قُتل في الهجوم.
عام 2003، حاولت طائرة إسرائيلية اغتيال الضيف وقادة آخرين لحركة حماس في منزل في مدينة غزة، ولكن الصاروخ أصاب الطابق الخطأ.
وعام 2006، تعرض منزل الضيف الذي كان يجتمع فيه مع قادة كتائب القسام لضربة بصاروخ، ونجا الضيف مرة أخرى، لكنه فقد البصر وتعرضت ساقه وذراعه للبتر بسبب هذه الهجمة.
وخلال الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عام 2014، التي استمرت أكثر من 50 يوماً، فشل الجيش الإسرائيلي في اغتيال الضيف، ولكن قُتلت زوجته واثنان من أطفاله، بالإضافة إلى 15 شخصاً آخر، ودُمرت المنطقة المستهدفة بالكامل.
على الرغم من إصابته مباشرةً وجعله مشلولاً ويجلس على كرسي متحرك، وفقاً لتقارير إعلامية، فإن هدفه في المقاومة لم يتوقف، وما زال يعدّها واحدة من أهم الأهداف التي يسعى لتحقيقها.
وخلال حرب مايو/أيار 2021، التي استمرت 11 يوماً، فشل الجيش الإسرائيلي في اغتيال الضيف مرتين، بعد أن حاول الوصول إليه من خلال قصف المناطق العسكرية والمدنية والمواقع تحت الأرض التابعة لحماس.
وعلى الرغم من جميع المحاولات الفاشلة لاغتيال الضيف، فإنه ما زال يستمر في نضاله وعمله قائداً لحركة حماس. ويظل محور اهتمام إسرائيل ومطلبها الأساسي توقيفه وتصفيته.