التفريغ النفسي.. متطوّعون يساعدون أطفال غزة للخروج من نفق القصف
يصف مروان في حديثه مع TRT عربي، الحياة في غزة بأنها صراع للبقاء على قيد الحياة، فالطفل يساعد والده أو والدته في نقل مياه الشرب أو الاغتسال أو الوقوف في طابور الخبز، أو السعي للعب مع أقرانه وتفقد أصدقائهم في أماكن النزوح.
وتشير وفاء إلى أنهم فقدوا منازلهم وأسرهم، ولم يعد لديهم ما يرتدون من ملابس، لكن ذلك لم يمنعهم من السعي لتحقيق هدفهم، وحملت على عاتقها التفريغ النفسي لأطفال أسرتها من أبناء إخوتها وأخواتها، فضلاً عن تنقلها بين المدارس والمستشفيات سيراً على الأقدام لمسافات طويلة للوصول إلى أكبر عدد من الأطفال، موضحة أنهم لا يتلقون دعماً مالياً من أي مؤسسة أو جهة./ صورة: TRT Arabi (TRT Arabi)

لليوم السادس والثلاثين على التوالي، تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي القصف على قطاع غزة مستهدفةً مستشفيات ومدارس تضم لاجئين نزحوا جراء قصف منازلهم.

وفي آخر إحصائياتها، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية استشهاد 11078 شخصاً، بينهم 4506 أطفال و3027 سيدة، وإصابة 26 ألفاً و490 بجروح مختلفة، وبلغ عدد المفقودين تحت الأنقاض 2700، بينهم 1500 طفل.

اضطرابات نفسية

يعيش الأطفال في غزة حياة قاسية بين الخوف من القصف، وفقدان أسرهم وشحّ الطعام وشرب مياه ملوثة، وفي حديثه لقناة سي إن إن، ذكر جيمس إلدر المتحدث باسم منظمة اليونيسف، أن أكثر من مليون طفل فلسطيني يعيشون في الجحيم.

وأضاف إلدر أن المنظمة تتلقى يومياً تقارير تُفيد بمقتل أو إصابة المئات من الأطفال، موضحاً أن الحل الوحيد لهذه الأزمة هو وقف إطلاق النار وإدخال كميات كبيرة من المساعدات إليهم، في ظل ما يعانونه من عدم توافر الأدوية والمياه واستمرار القصف.

لم يقتصر قلق منظمة اليونيسف على الأطفال من القصف فقط، بل امتدّ لما أعلنه المتحدث الرسمي جيمس إلدر في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قصر الأمم المتحدة في جنيف، إذ قال: إن "غزة أصبحت مقبرة لآلاف الأطفال، وإنها جحيمٌ حيٌّ للجميع".

ولفت إلى أن "التهديدات التي يتعرض لها الأطفال تتجاوز القنابل وقذائف الهاون، فالمياه تبلغ قدرتها الإنتاجية في غزة 5% فقط من إنتاجها اليومي المعتاد، وتُشكل وفيات الأطفال من الجفاف -خصوصاً الرُضّع- تهديداً متزايداً".

وأشار المتحدث باسم اليونيسف إلى أن أكثر من 800 ألف طفل في غزة -أي ثلاثة أرباع إجمالي عدد الأطفال في القطاع- بحاجة إلى الدعم الصحي النفسي والاجتماعي، وهذا الرقم قبل هذا التصعيد الأخير.

ويبيّن أن فرق التفريغ النفسي تعمل بشكل تطوعي طوال الوقت، يعتمدون على المبادرة الشخصية لتوفير أدوات الأنشطة من ألوان وملابس. (TRT Arabi)

وضرب إلدر مثالاً لطفلة تعمل والدتها في المنظمة في غزة، قائلاً: "تعاني تاليا ذات السنوات الأربع اضطراباً نفسياً، الذي يظهر في صورة أعراض شديدة من التوتر والخوف، فتحاول إيذاء نفسها بنزع شعرها وخدش فخذيها حتى تنزف".

صراع البقاء على قيد الحياة

يقول الصحفي والناشط في مجال الإغاثة عمّار مروان، إن معظم الأنشطة التي تُقام للأطفال في غزة حالياً هي تفريغية، وتحاول فرق الدعم النفسي تخفيف حدّة الصدمات على الأطفال من خلال تلوين وجوه الأطفال ورسم ابتسامات بالألوان، موضحاً أن الأطفال في غزة يعشقون الحياة وعوّدتهم الحروب على التناسي والهرب باللعب حتى يسمعوا صوت غارةٍ أو قصفٍ يعيد إليهم الخوف من جديد.

يصف مروان في حديثه مع TRT عربي، الحياة في غزة بأنها صراع للبقاء على قيد الحياة، فالطفل يساعد والده أو والدته في نقل مياه الشرب أو الاغتسال أو الوقوف في طابور الخبز، أو السعي للعب مع أقرانه وتفقد أصدقائهم في أماكن النزوح.

ويبيّن أن فرق التفريغ النفسي تعمل بشكل تطوعي طوال الوقت، يعتمدون على المبادرة الشخصية لتوفير أدوات الأنشطة من ألوان وملابس، بينما تتضمن الفاعليات ألعاباً بسيطة مثل "شدّ الحبل، الكراسي" وتمتد لساعتين على الأكثر، مشيراً إلى أن ذلك يساعد الأطفال، لكن لا بدّ من إيقاف الحرب لعلاج ما أصابهم من أزمات.

ويحاول المتطوّعون في مراكز الإيواء كافة كسر الجمود وتجاوز الصدمة ودفع الأطفال للتجاوب، إذ يوضح عمّار أن ما يجري حالياً من مبادرات وفاعليات يكون بصورة فردية، بينما يحتاج الأمر إلى مشاريع كبيرة تستوعب جميع الأطفال في غزة بعد ما مروا به في العدوان.

وتشير وفاء إلى أنهم فقدوا منازلهم وأسرهم، ولم يعد لديهم ما يرتدون من ملابس، لكن ذلك لم يمنعهم من السعي لتحقيق هدفهم، وحملت على عاتقها التفريغ النفسي لأطفال أسرتها من أبناء إخوتها وأخواتها، فضلاً عن تنقلها بين المدارس والمستشفيات سيراً على الأقدام لمسافات طويلة للوصول إلى أكبر عدد من الأطفال، موضحة أنهم لا يتلقون دعماً مالياً من أي مؤسسة أو جهة. (TRT Arabi)

ويضيف الناشط الإغاثي أن القصف يلاحقهم حتى في أوقات التفريغ النفسي، فيركز خلالها المتطوّعون على تهدئة الأطفال بعد دخولهم في حالة من التشتّت والصراخ، بالغناء بصوت عالٍ وإشراكهم في نشاط سريع يلفت انتباههم بعيداً عن القصف أو إنهاء الفاعليات في حالة الشعور بالخطر.

تحدي الألعاب تحت القصف

سعت سارة عاشور القاطنة في مدينة خان يونس للحفاظ على الجانب النفسي لأطفال الأسرة، في بداية العدوان، نزحت مع الأسرة إلى منزل بعيد عن منطقتهم، ثم عادوا إلى البيت في الفترة الحالية ليستضيفوا نازحين بأطفالهم.

وقررت أسرة سارة تجنّب إخبار الأطفال بحقيقة وجود حرب، فأخبروهم أن ما يسمعونه من أصوات هي ألعاب نارية من عُرس قريب أو صغار يلعبون في الشارع، وحرصوا حينها على ألا يتغير شيء في الروتين اليومي للأطفال حتى ركوب الدراجة بشرط أن يظل النشاط داخل البيت فقط.

لم تتمكن الأسرة من إخفاء الأمر طويلاً، فخوف الكبار انتقل للأطفال، تقول سارة لـTRT عربي إنهم رأوا أنه من الأفضل أن يعلم الأطفال الحقيقة، حتى إذا ما سمعوا صوت صاروخ علموا أن ذلك إنذار بحدوث خطر، فيحتمون بأحد الكبار، وهو ما دفعها للتخفيف عنهم بتنظيم ألعاب بسيطة يتمكنون من لعبها في المنزل، فاستخدمت الملاعق البلاستيكية والكرات الصغيرة ليحمل الطفل الكرة من نقطة لأخرى في المنزل بوساطة الملعقة، وغيرها من الألعاب.

وترجع سارة نجاحها في التعامل مع الأطفال لتطوّعها في الهلال الأحمر وعدة مؤسسات تعاملت فيها مع الأطفال، مبينةً أن التحدي الأكبر في ظل هذا الوضع، تنظيم ألعاب تعتمد على أدوات متوافرة في البيت، فاستخدمت مراتب الأسِرّة للتزحلق بإسنادها على أحد الجدران.

يقول الصحفي والناشط في مجال الإغاثة عمّار مروان، إن معظم الأنشطة التي تُقام للأطفال في غزة حالياً هي تفريغية، وتحاول فرق الدعم النفسي تخفيف حدّة الصدمات على الأطفال من خلال تلوين وجوه الأطفال ورسم ابتسامات بالألوان. (TRT Arabi)

سارة -التي هي في الأصل رسامة- تتوافر لديها أدوات الرسم الخاصة بها، قررت مساعدة الأطفال النازحين في منزلهم وتنظيم نشاط تلوين للتخفيف عنهم، تقول: "نجحت التجربة، وسعد الأطفال بها، وطلبوا أن أرسم لهم زهوراً وبيوتاً ليقوموا بتلوينها".

وطلبت أسر الأطفال النازحين تكرار التجربة مرة أخرى، لما شاهدوه من أثر جيد في الصحة النفسية لأطفالهم، وتؤكد سارة أنها قبلت على الفور.

سعدت سارة باختيار الأطفال رسومات طبيعية بعيدة عن أدوات الحرب، تقول إنها عايشت خمسَ حروب في غزة، كانت ترسم دائماً الصواريخ والدماء والأشلاء، وكثيراً ما ترى لوحات لأطفال صغار يرسمون ما يتعلق بالحرب، موضحة أن اختيار أطفال أسرتها والنازحين لهذه الرسومات أشعرها ببعض الراحة، فقد يكون ذلك دليلاً على احتفاظهم ببعض السلام النفسي.

إسعافات أولية لتخطي الصدمات

خمس سنوات قضتها الدكتورة وفاء أبو جلالة اختصاصية التخاطب والدعم النفسي في مساعدة أطفال غزة على الخروج من أزمات ما بعد الحرب، لم يُثنها قصف منزل عائلتها وتنقلهم بين أكثر من مركز إيواء عن أداء مهمتها، وخلال السنوات الأخيرة أسّست مركز الوفاء للتخاطب والدعم النفسي، الذي يضم فريقاً مكوناً من 15 متطوّعاً اجتمعوا على هدف واحد، وهو مساعدة الأطفال لتخطي الصدمات.

كلما نزحت إلى مكان حاولت نشر البهجة في نفوس أطفالها، فانتقلت وأسرتها من مستشفى إلى مدرسة، تقول لـTRT عربي إنها استغلت وجودها في المستشفى للتعامل مع الأطفال والتخفيف عنهم، وبعد انتقالهم إلى مركز إيواء آخر في مدرسة كررت الأمر ذاته، ولم تتوقف عن تكراره في أي مكان تكون فيه حتى الشارع، لم تنتظر انتهاء العدوان لبدء الإصلاح، فعرضت على فريقها المشاركة في حملات تفريغ نفسي للأطفال، وبدؤوا في تجهيز الأدوات وشرائها على نفقتهم الخاصة.

الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً في الحروب التي تترك فيهم آثاراً نفسية كبيرة، وهو ما يستوجب تدخلاً سريعاً لترميمها بتقديم الدعم النفسي فور وقوع الحدث الصادم، حسب وفاء. (TRT Arabi)

وتشير وفاء إلى أنهم فقدوا منازلهم وأسرهم، ولم يعد لديهم ما يرتدون من ملابس، لكن ذلك لم يمنعهم من السعي لتحقيق هدفهم، وحملت على عاتقها التفريغ النفسي لأطفال أسرتها من أبناء إخوتها وأخواتها، فضلاً عن تنقلها بين المدارس والمستشفيات سيراً على الأقدام لمسافات طويلة للوصول إلى أكبر عدد من الأطفال، موضحة أنهم لا يتلقون دعماً مالياً من أي مؤسسة أو جهة.

الأطفال هم الفئة الأكثر تضرراً في الحروب التي تترك فيهم آثاراً نفسية كبيرة، وهو ما يستوجب تدخلاً سريعاً لترميمها بتقديم الدعم النفسي فور وقوع الحدث الصادم، حسب وفاء التي توضح أن الطفل قد يُظهر ارتياحاً بعد فقد الأسرة أو البيت، لكن ذلك ليس الشعور الحقيقي، وتظهر عليه فيما بعد أعراض الخوف الشديد.

وتستكمل: "تختلف الأعراض من طفل لآخر بين الكوابيس الليلية والتبوّل اللا إرادي وتذكر المشاهد الدامية، ويُعالج ذلك بالدعم النفسي كإسعافات أولية بعد الصدمة، ثم الدعم النفسي العميق بالألعاب والسيكودراما والرسم والجلسات الفردية والجماعية".

الأطفال جميعاً في حالة صعبة

رضيعة في عامها الأول فقدت عائلتها بالكامل، انتشلها رجال الإسعاف من حضن أمها وهي ترضع، قُصف منزلهم، وأصيبت بشظايا في الرأس، كانت الحالة الأصعب التي تعاملت معها الاختصاصية النفسية في إحدى مدارس الأونروا، تقول وفاء: إن الأطفال جميعاً في حالة صعبة كان بينهم معتز استشهد من عائلته 30 فرداً، وطفلان آخران فقدا أسرتهما، وكللت خيوط الغرز رؤوسهم بعد مرورهم بعمليات جراحية، مضيفة: إنهم نجحوا في مساعدتهم على التعبير عن صدمتهم بالحديث عنها وتبعها أنشطة بالرسم والألعاب لتفريغ المشاعر السلبية كافة.

ويحاول المتطوّعون في مراكز الإيواء كافة كسر الجمود وتجاوز الصدمة ودفع الأطفال للتجاوب. (TRT Arabi)

وقد حاولت وفاء على مدار أسبوعين الحصول على تصريح الحضور في مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) لتقديم الأنشطة للأطفال، فهنا يعيش نازحون فقدوا منازلهم وحياتهم، وهو وضع يصعُب التعامل معه من دون وجود تصريح، ونجحت في الحصول عليه يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يساعدها على تقديم الدعم النفسي للأطفال بشكل أفضل.

TRT عربي