قميص رقيق وبنطال ممزق هما كل ما يحمى جسد الطفل عدنان المرتجف من البرد القارس أثناء وقوفه في أحد شوارع مدينة إدلب، يستجدي المارة ويطلب منهم العون والمساعدة لتأمين نفقاته بعد وفاة والده وتخلي أمه.
عدنان هو أحد الأطفال الذين دفعتهم الحرب المدمرة في سوريا وما رافقها من نزوح وقتل وتهجير للوصول إلى حافة الفقر بإدلب وريفها والتوجه إلى التسول لتحصيل المال لتغطية نفقاتهم، إذ بات ازدياد أعداد المتسولين من جميع الفئات العمرية واضحاً بمعظم بلدات شمال غربي سوريا ومدنه، إذ ينتشرون في الأسواق والطرقات ويطلبون من المارة أي مبلغ يساعدهم في تأمين خبز الحياة أو بدل إيجار منازلهم، وقد يتعاطف أناس معهم، فيما يعتقد آخرون أنهم اتخذوا من التسول مهنة تضمن لهم الكسب السريع من دون عناء أو مشقة.
فالنظام السوري يتبع في إدلب سياسة التجويع والتدمير من خلال استمرار القصف على ريفي إدلب وحلب، ممَّا يؤدي إلى استمرار حركة نزوح الأهالي، ويضطرهم إلى عيش حياة الفقر والحاجة وعدم الاستقرار، كما يحرم الكثيرين من منازلهم ومصادر أرزاقهم، فضلاً عن تعطيل الحياة العامة من خلال قصفه للأسواق والمشافي والمصانع والمدارس وإخراج معظمها عن الخدمة، كما قام بقتل واعتقال آلاف الرجال لمجرد المطالبة بالحرية ومعارضة حكمه، ممَّا حرم أسرهم من المعيل الأساسي، ودفع الكثيرين منهم إلى التسول لتحصيل قوت يومهم.
الناشط والإعلامي أحمد الخطيب من إدلب يوضح لـTRT عربي أسباب الفقر بقوله: "ظروف المجتمع السوري، وما يعانيه من أزمات اقتصادية متتالية ناتجة عن الحرب التي شنها نظام الأسد على شعبه، وما خلفته تلك الحرب من بطالة وضعف الإمكانيات المادية، إلى جانب انتشار الأمراض والإعاقات، كلها أسباب تدفع أشخاصاً إلى التسول لسد تكاليف العيش والعلاج".
ويغلب على المتسولين وجود الأطفال، إذ يُستغل في إدلب أطفال أيتام فقدوا عائلهم والمتاجرة ببراءتهم ونحول أجسادهم، بحثِّهم على التسول، فيضطرون إلى ترك مقاعد الدراسة ويضيع مستقبلهم بين فكَّي الجهل والعوز.
الطفل عدنان الأحمد (8 سنوات) من مدينة إدلب يتحدث عن الظروف التي دفعته إلى التسول قائلاً: "أبي مريض قلب وقد توفي منذ سنة، وتزوجت أمي رجلاً آخر، وبقيتُ مع أختي في عهدة عمنا الذي يجبرنا على التسول بهدف تأمين ثمن الخبز، لذلك أخرج مع أختي لطلب المال من الناس أو أي شيء يعيننا على الحياة".
وعن ذهابه إلى المدرسة أضاف عدنان: "أقف طوال اليوم في الشارع ولا وقت لدي لارتياد المدرسة، ويقول عمي إنه لا فائدة من التعليم في زمن الحرب".
نساء تحت وطأة الحاجة
كذلك دفع الفقر نساء من إدلب إلى التسول في ظل النزوح وفقدان المعيل وقلة فرص العمل وعدم امتلاك الشهادات العلمية أو المهارات الحرفية التي تمكنهن من الاعتماد على أنفسهن في تأمين مصروفهن اليومي.
أم سعيد (45 عاماً) تحمل حفيدها الذي لم يبلغ عامه الأول وتتوجَّه كل صباح نحو الشارع الرئيسي لبلدة كللي بريف إدلب الشمالي لاستجداء المارة، وعن معاناتها تقول لـTRT عربي: "زوجي كبير بالسن وولدي معاق وأب لطفلين، وكنا نستدين لنأكل، وعندما كثرت الديون وأصبح من هب ودب يطالبنا بدفع ما علينا لم يعد أمامي أي خيار سوى الخروج للتسول لنبقى على قيد الحياة".
وعن صعوبة موقفها تضيف بحزن: "أصبح الرغيف الذي نأكله بطعم الذل، فهذا العمل معيب وأشعر بالخجل، ولولا الحاجة ما كنت لأفعل ذلك".
النزوح دافع للتسول
حرم النزوح الكثير من الأسر من بيوتها وأرزاقها ومصادر دخلها الأساسي، واضطروا إلى العيش في مخيمات وسط أوضاع مأساوية أو منازل غير مجهزة أو أشباه منازل مهدمة ومهددة بالسقوط في أية لحظة.
أم عمر (45 عاماً) نازحة من ريف معرة النعمان الشرقي إلى مخيم عشوائي على أطراف بلدة سرمدا الحدودية مع تركيا بريف إدلب الشمالي، ترتدي جلباباً أسود وتغطي وجهها وتمضي يومها بالتنقل بين الساحات والمطاعم والأسواق، وعن معاناتها تقول: "يقع على عاتقي الإنفاق على أبنائي السبعة بعد وفاة والدهم بغارة حربية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وبعد النزوح ازدادت أوضاعنا سوءاً بلا عثور على فرصة عمل أو أي مصدر للدخل".
وتضيف: "عندما كنا في قريتنا كانت لدينا قطعة أرض نزرعها ونعيش من مردودها، وكان أهل الخير يعرفوننا ويتصدقون علينا، ولكن بعد النزوح، قد نموت داخل الخيمة من دون أن يطرق أحد بابنا".
ذوو الاحتياجات الخاصة
يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة في الشمال السوري من الإهمال والتهميش في ظل الحرب من دون أن يلتفت إليهم أحد أو يستجيب لمطالبهم، إضافة إلى ازدياد أعداد مصابي الحرب الذين يعجزون عن العمل وكسب العيش، ليكون التسول والكسب من خلاله ملاذ البعض وأحد الأدوات التي قد تساعدهم على تحقيق بعض ما يتطلعون إليه من أدوية وعلاج يعجز الأهل غالباً عن توفيره.
الطفلة نورة (10 سنوات) نزحت مع أسرتها من ريف حلب الغربي إلى مخيم في مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي، بترت يدها اليمنى جراء إصابة حربية وتتمنى أن تحصل على طرف صناعي، الأمر الذي يدفعها إلى حمل علب محارم وملاحقة المارة، وتلح عليهم للشراء ولا تعود إلى المنزل قبل نفاد كل ما لديها، لتنفق على نفسها وإخوتها ووالدها المصاب بكسور في عموده الفقري".
نورة تخرج برفقة أخيها وتؤكد أنها مضطرة إلى العمل، وعن ذلك تقول: "أعاني الإعاقة وأعجز عن أشياء كثيرة بيد واحدة، كما أتعرض للسخرية من قبل الآخرين، وأتمنى أن أحصل على طرف صناعي لم يستطع والدي العاجز أن يؤمن ثمنه المرتفع".
تركيا تمد يد العون للشمال السوري
تعمل تركيا ما بوسعها لتقديم الدعم والإغاثة للمتضررين من الحرب الدائرة في سوريا، ومساعدة أهالي الشمال السوري في مجالات مختلفة من تعليم وصحة وأغذية ودعم نفسي. ففي إطار عملها المتواصل لدعم المحتاجين، تستمر تركيا في إدخال المساعدات الإنسانية، إلى جانب تقديم مشاريع السكن والإيواء للنازحين، حيث تعمل منظمات إغاثية تركية بينها هيئة الإغاثة الإنسانية "İHH"، على بناء 50 ألف منزل مؤقت من الطوب للنازحين السوريين، لتخليصهم من حياة الخيام والتشريد، بالإضافة إلى دور هذه المشاريع في تشغيل اليد العاملة وتخفيف حدة البطالة، فضلاً عن استهداف الأرامل والأيتام بعدد من المشاريع الإنسانية الإغاثية منها بناء قرية “السلام” بريف إدلب التي تضمنت مؤخراً تسليم 100 بيت للأرامل والأيتام.
وهذا ما يؤكده الناشط أحمد الخطيب بقوله: "لتركيا دور في تخفيف معاناة الشعب السوري منها بناء مخيمات للنازحين، وتأمين المساعدات الإنسانية لهم ومشاريع السكن والإيواء للكثير من الفقراء والمحتاجين“.
آثار خطيرة
على الرغم من النتائج الخطيرة المترتبة على انتشار ظاهرة التسول تغيب المؤسسات المهتمة بمعالجة هذه الظاهرة، الأمر الذي يساهم في انتشارها بشكل أكبر، مع غياب القوانين التي تفرض عقوبات على ممتهني التسول وتطالب بملاحقتهم للتأكد من حاجتهم.
محمود غفير أمين سر المجلس المحلي في مدينة إدلب يتحدث لـTRT عربي عن ظاهرة التسول في إدلب بقوله: "يعود انتشار التسول إلى سببين، الأول هو الفقر والحاجة نتيجة التفكك الأسري وإصابات الحرب وفقدان المعيل، أما الثاني فهو رغبة الحصول على المال بشكل سريع ومن دون عناء".
ويشير غفير إلى الدور الإغاثي المحدود للمنظمات الإنسانية العاملة في إدلب واقتصار عمل معظمها على توزيع السلال الغذائية، فيما يجب أن يكون دورها حقيقياً وفعالاً من خلال دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة لتوفير فرص عمل، ومشاريع "النقد مقابل العمل" للقضاء على البطالة، فضلاً عن توزيع مبالغ عينية على المحتاجين، إلى جانب إنشاء دور لرعاية الأيتام والمشردين لكفالتهم وتوفير احتياجاتهم ودمجهم في المجتمع.
ويعاني المتسولون البؤس والضغوطات النفسية التي قد تدفع الأطفال إلى الانحراف والميول إلى ارتكاب الجرائم كالسرقة وغيرها، وهذا ما تؤكده المختصة بالتوعية والصحة المجتمعية براءة المخزوم (38 عاماً) من خلال حديثها لـTRT عربي عن مخاطر ظاهرة التسول بالقول: "التسول ظاهرة اجتماعية خطيرة تحرم الأطفال طفولتهم وعيش حياة طبيعية، كما يتركون مقاعد الدراسة ويعيشون حياة الجهل والأمية والعوز".
وتؤكد المخزوم أن التسول قد يدفع إلى الانحراف ويحرض على السرقة، حين يمتنع الأشخاص الذين يلجأ إليهم للحصول على حاجته، فيعمد الطفل المتسول إلى السرقة لعدم إدراكه مخاطر السرقة وعواقبها الوخيمة على نفسه وعلى مجتمعه.
وتحذِّر من احتمال تعرُّض الأطفال والنساء للتحرش الجنسي واستغلال حاجتهم من قبل ضعاف النفوس.
وتنصح المخزوم بتضافر جهود جميع المنظمات الإنسانية العاملة في الشمال السوري لإقامة مشاريع تنموية وتدريب النساء على مهن تساعدهن على كسب رزقهن، وحث الأطفال على العودة إلى مقاعد الدراسة، إلى جانب نشر التوعية والإرشاد بضرورة الحد من هذه الظاهرة.
وتجدر الإشارة إلى أن فريق "منسقو الاستجابة" أصدر بياناً بتاريخ 28 من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي أشار من خلاله إلى أن عدد الأيتام دون سن الثامنة عشرة في مناطق شمال غربي سوريا وصل إلى 198632 يتيماً، فيما وصل عدد الأرامل من دون معيل إلى 46892، وقد بلغ عدد ذوي الاحتياجات الخاصة 199718، أما أعداد النازحين القاطنين في المخيمات فقد بلغ أكثر من مليون و48 ألف نازح.
موجات النزوح والتهجير وفقدان المعيل إلى جانب الغلاء وتضاؤل فرص العمل كلها أسباب تدفع الفئات الأكثر ضعفاً في إدلب إلى التسول وطلب المساعدة من الآخرين، بهدف تحصيل لقمة العيش وتأمين حاجاتهم اليومية، في ظل غياب أي جهة توفر لهم الحماية وتكفيهم العوز.