يوقظ 12 مايو من كل سنة ذكريات أليمة في وجدان الجزائريين، وسكان قسنطينة العريقة على وجه الخصوص، لكونه يوماً يوافق عمليات القتل التي شهدتها أحياء المدينة سنة 1956، وراح ضحيتها مئات من سكانها المسلمين على يد جيرانهم اليهود، الذين عاشوا وتعايشوا معهم لقرون طويلة، لولا أن دخلت يد الاستعمار الفرنسي والجماعات الصهيونية لتحرضهم على سفك تلك الدماء.
فيما تعد هذه الأحداث من أوائل العمليات الإرهابية التي تقودها الحركة الصهيونية في شمال إفريقيا، وذلك بهدف افتعال النعرات بين اليهود والمسلمين، وخلق مناخ من الرعب في أوساط اليهود، يخدم خطة من أجل تعبئتهم نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة. فيما التقت هذه المصالح الصهيونية ومصلحة الاستعمار الفرنسي في كسر زخم حركة التحرير الذي كان يتنامى في الأوساط الجزائرية بقسنطينة.
مذبحة قسنطينة
قصة ذلك اليوم الربيعي من سنة 1956 تبدأ برمزيته الجليلة، إذ وافق عيد الأضحى بالنسبة إلى المسلمين ويوم السبت بالنسبة إلى اليهود. ووقوع اختيارهم على مدينة قسنطينة لم يكن عبثاً كذلك، لكونها تعرف منذ التغريبة الأندلسية طائفة يهودية مهمة، قدمت إليها مُهجرة مع المسلمين.
هكذا وبينما الساعة كانت تقارب الحادية عشر والنصف عند الزوال، كما تذكر المصادر التاريخية، اقتربت عربة من مقهى "مازية" اليهودي، بشارع سيدي لاخضر وسط المدينة، ليخرج منها ثلاثة عناصر، ملقين قنبلة يدوية داخل المحل، ثم لاذوا بالفرار تلاحقهم مجموعة من المارة ورواد المقهى. وبالتزامن مع ذلك، سُمع دوي إطلاق في أرجاء عديدة من المدينة.
حسب أطروحة السلطات الفرنسية الاستعمارية وقتها، فإن "الانفجار أدى إلى إصابة 13 أوروبياً، من بينهم عناصر شرطة فرنسية". وذكرت جريدة المجاهد، لسان حال جبهة التحرير الوطني الجزائرية، أنه "قبل الانفجار بقليل، ألقى رجل يرتدي ملابس أوروبية عبوة ناسفة على المقهى وهرب باتجاه الحي اليهودي".
وبعدها انطلق صدامات طائفية واسعة في أحياء المدينة، حيث تجمهر عدد من المتطرفين اليهود والمستعمرين الفرنسيين، مسلحين بالعصي والسكاكين والمسدسات، تدعمهم قوات الشرطة والجيش الفرنسي، وأخذوا يجوبون الأحياء ويقتلون المسلمين العزل. كما نُهب عديد المحال التجارية وقُتل أصحابها المسلمين، واقتُحمت حتى البيوت وقُتلت النساء داخلها.
واستمرَّت أعمال العنف لليوم التالي، مخلفة حصيلة فاقت الـ 230 قتيلاً، وفقًا لما ذكرته آن ماري لوانشي، القيادية بجمعية الإغاثة الكاثوليكية والتي شهدت أطوار المذبحة. فيما لم تصرح السلطات الاستعمارية إلا بحصيلة 12 قتيلاً و17 جريحاً، ما تناقلته عنها وسائل الإعلام الدولية.
وكتب وقتها الدكتور محمد صلاح بن جلول، النائب البرلماني وعضو الحزب الشيوعي الجزائري، مراسلة لوكالتي فرانس بريس ورويترز يستنكر فيها تلك المعلومات المظللة. ووصف قائلاً: "ما وقع كان مذبحة حقيقية ومتعمدة من قبل عناصر أوروبية معينة ضد المسلمين الأبرياء".
الصهاينة والاستعمار الفرنسي
ويذكر المؤرخ الفرنسي جلبير مينيي في كتابه "التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الجزائرية"، أن الأحداث القتل والنهب التي تلت تفجير أطرتها منظمة "ميسغريت" التابعة للموساد الإسرائيلي. فيما تورد مصادر متفرقة أن هذه المنظمة كانت تنشط في عمليات تهريب يهود شمال إفريقيا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي هذا الإطار، أوضح المحل السياسي والكاتب الصحفي الجزائري، عبد الله الرافعي، في حديث سابق له مع TRT عربي، بأنه خلال شهادة نشرها موقع "بروش أوريون انفو" الفرنسي لأفراهام برازيليا (78 عاماً)، الذي عمل جاسوساً للموساد بالتعاون مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، قال: "إن الفاعل الذي استهدف مقهى في قسنطينة لم يكن جزائرياً وإنما كان عنصراً من عناصر فرقته، وطارده حينها أعضاء الفرقة وقتلوه، لتوجِّه بعدها الدعاية اليهودية أصابع الاتهام إلى الجزائريين، ليرد اليهود المتطرفون بمذابح في شوارع قسنطينة".
وتابع الرافعي أنه حسب التقارير فإن برازيليا كانت ترافقه زوجته لترتيب عمليات استخبارية وتنظيم الخلايا، حتى إنه لإخفاء نشاطه الحقيقي كجاسوس للموساد عمل مدرساً في إحدى مدارس قسنطينة، وأن مهمته حينها كانت تقتضي تدريب وتسليح شبان يهود في مدينة قسنطينة. وأشار إلى تقرير سابق للموساد، نشر في عام 2009، يوضح أن الهدف من عملية 12 مايو كان زرع الرعب في أوساط يهود الجزائر لإجبارهم على المغادرة إلى فلسطين لتوطين مزيد من اليهود هناك.