في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، عاشت العاصمة الفرنسية إحدى أبشع جرائم الاستعمار في حق عشرات الجزائريين، حينما أقدمت الشرطة، بأمر من قائد المنطقة الأمنية للعاصمة موريس بابون، على سفك دماء المحتجين الجزائريين ضد الإجراءات الأمنية المقيدة لحريتهم، بل ورمي جثثهم في نهر السين، زيادة في التنكيل والإهانة بضحايا تلك الوحشية.
ومنذ ذلك الوقت أُلقيَت مسؤولية وقوع تلك المذبحة على رأس بابون وحده، فيما كشف رفع السرية عن أرشيف الاستعمار أن يدي رئيس الجمهورية وقتذاك شارل ديغول، ملطختان بدماء الجزائريين الذين نكّل بهم في ذلك اليوم.
انتقاماً من رغبتهم في الحرية!
كانت ثورة التحرير الجزائرية سنة 1961في أوجها، إذ كان المجاهدون يقضّون مضاجع قوات الاحتلال ومرتزقته في الجبال، في المقابل تتأرجح الحكومة الفتية في باريس تحت ضغط داخلي ودولي، من أجل تصفية الاستعمار.
فلم يمضِ على الانقلاب العسكري الفاشل، الذي قاده ضباط الجيش الفرنسي سوى ثلاث سنوات. والرئيس شارل ديغول، الذي تلا تلك الحقبة، ما زال في المراحل الأولى لتأسيس جمهوريته الخامسة، إذ بدأ يميل إلى ترجيح رأي الشارع الفرنسي بالخروج من مستنقع الدم الذي علقوا فيه في الجزائر. ففي 8 يناير/كانون الثاني 1961 كانت نتيجة الاستفتاء حول إعطاء الجزائر حق تقرير المصير هي الموافقة بنسبة 75.26%.
ولم يكن عدد من أعضاء حكومة ديغول على وفاق مع رئيسهم في هذا التوجه، في مقدمتهم رئيس الحكومة ميشيل دوبريه. وسعى هؤلاء المسؤولون في تحالفهم مع منظمة "الجيش السري" المسلحة، التي أسّسها ضباط عسكريون أغلبهم من "الأقدام السود" المستعمرين الذين وُلدوا بالجزائر.
هكذا عزم معارضو فكرة استقلال الجزائر على ممارسة عنف غير مسبوق ضد جبهة التحرير الوطني الجزائرية لعرقلة المفاوضات وتقليل فرص إعطاء الشعب الجزائري حق تقرير المصير. فأقال دوبريه وزير داخليته الموالي لديغول، واستبدل به أحد المقربين إليه، وهو روجيه فريه، وكان إلى جانب الأخير موريس بابون، مدير أمن العاصمة باريس.
موريس بابون الذي أعلن يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 1961، إدخال نظام حظر التجوّل الليلي في باريس وضواحيها "للعمال الجزائريين المسلمين" و"لمسلمي فرنسا" و"لمسلمي فرنسا من الجزائر"، على حد تعبير مدير أمن العاصمة وقتها. في إجراءات عنصرية طالت ما يقرب من 150 ألف جزائري يعيشون في ذلك الوقت في باريس، وكثير منهم يُعتبرون رسمياً فرنسيين ويملكون بطاقة الهوية الفرنسية.
مذبحة 17 أكتوبر 61
عقب تدابير حظر التجول الليلي المجحفة، دعا الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطني كلّاً من "السكان الجزائريين في باريس، والرجال والنساء والأطفال، إلى التظاهر السلمي ضد حظر التجوّل"، وذلك في 17 أكتوبر 1961.
وحسب المؤرّخ جان لوك أينودي، فإن "رئيس الشرطة موريس بابون ونحو 7 آلاف من عناصر الأمن الفرنسي، ونحو 1400 من شرطة مكافحة الشغب، تَدخَّلوا لمنع هذه التظاهرة بحجة أنّها لم تأخذ الموافقة القانونية". وسُدّت جميع سبل الوصول إلى باريس ومحطات المترو ومحطات القطارات، ومن بين نحو 150 ألف جزائري من قاطني العاصمة الفرنسية تَمكَّن 50-60 ألفاً من الانضمام إلى التظاهرة.
وخلال الليل وقعت المذبحة في باحة المقرّ العامّ للشرطة، مما أسفر عن مصرع عشرات الضحايا نتيجة الممارسات الوحشية لقوات أمن العاصمة الفرنسية، واعتقلت الشرطة عديداً من المتظاهرين وكثيراً من المصابين، ومارست بحقهم أعمال عنف وتعذيب خارج إطار القانون، فيما يُشير عديد من المصادر التاريخية إلى إعدام عناصر الشرطة الفرنسية عشراتٍ وإلقاء جثثهم في مجرى نهر السين وفي قنوات المياه القذرة في العاصمة الفرنسية.
ويحكي أحد الناجين من تلك الليل الدامية، السيد رابح السحيلي، أنّ "وحشية رجال الشرطة والدرك كانت مروّعة". وأردف الجزائري الذي لم يكن بلغ وقتها 20 سنة قائلاً: "كنت مع أحد أقاربي عندما هاجمنا شرطيون. حاول حمايتي باعتباره أقوى مني لكنّه تلقّى سيلاً من الضربات بأعقاب المسدسات والهراوات، ما تسبب في كسر ساقه".
وتابع: "خلال الاعتقالات رأيت نحو عشرين شخصاً ينزفون دماً على الأرض بالقرب من ساحة النجمة. كان عدد رجال الشرطة كبيراً جداً ويتصرّفون كالوحوش الشرسة". كما ذكر آسفاً أن "الشرطة ألقت جزائريين، بعضهم أحياء، في نهر السين، لكنّنا لن نعرف العدد الدقيق للجثث التي ابتلعها هذا النهر".
ديغول متورط!
وعكس ما كان يروَّج وقتها من تحميل مسؤولية المجزرة البشعة لقائد شرطة باريس موريس بابون، فإن الرئيس الفرنسي شارل ديغول كان على علم بما وقع تلك اللَّيلة. هذا ما يكشفه أرشيف الاستعمار الفرنسي بعد أن رُفعت عنه السرية.
وأظهرت وثائق الأرشيف التي رُفعت عنها السرية واطّلع عليها موقع "ميديابارت" المتخصص في التحقيقات، أن مذكرة بتاريخ 28 أكتوبر 1961 موجهة إلى رئيس الجمهورية كتبها مستشار الجنرال ديغول للشؤون الجزائرية، برنار تريكو. تحدّثت عن "احتمال وجود 54 قتيلاً"، موضحاً أن "بعضهم أُغرقَ، وآخرين خُنقوا، وآخرين قُتلوا بالرصاص. وقد فُتحت تحقيقات قضائية، وللأسف من المحتمَل أن تُفضي هذه التحقيقات إلى اتهام بعض ضباط الشرطة".
وفي مذكرة ثانية بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1961، كشف تريكو لشارل ديغول "مسألة تتعلق بالعمل الحكومي، وهي معرفة ما إذا كنا سنترك الأمور تسير بلا تدخُّل، وفي هذه الحالة من المحتمل أن المسألة ستتعقّد، أو إذا كان على وزير العدل (برنارد شينو حينها) وكذلك وزير الداخلية (روجيه فري) إبلاغ القضاة وضباط الشرطة القضائية المختصة أن الحكومة تريد أن يُجلى الضوء عما حدث".
غير أنه لم يُلاحَق أي شرطي في إطار هذه المجزرة، كما ثُبّت وزيرا الداخلية والعدل في منصبيهما، وكذلك بقي موريس بابون محافظاً لباريس، وهو الذي طالما نفى أن تكون الشرطة ضالعة في أعمال عنف على الإطلاق.