تابعنا
حظي الممر الأوسط بأهمية مضاعفة لدى الدول الأوروبية بعد الحرب الروسية-الأوكرانية التي كشفت عن نقاط ضعف جوهرية لدى أوروبا، وإثر فرض عقوبات وقيود تصدير على روسيا، تأثرت التدفقات التجارية بين روسيا وأوروبا عبر الممر الشمالي،

يوجد طريقان تجاريان رئيسيان يربطان آسيا مع أوروبا، الأول هو الطريق البحري عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر وقناة السويس والبحر الأبيض المتوسط، ويمثل شرياناً رئيسياً لعبور التجارة الدولية، وقد تأثر هذا الطريق بالتوترات الأخيرة في البحر الأحمر، مما أدى إلى انخفاض معدل المرور به بنسبة 50% منذ بداية العام الجاري، واللجوء إلى طريق بحري أطول يدور حول القارة الأفريقية عبر رأس الرجاء الصالح. أما الطريق الآخر فهو الممر الشمالي الذي يربط الصين بأوروبا عبر السكك الحديدية المارة بروسيا.

وخلال الفترة بين 2019 و2022 شكَّلت حصة النقل البحري 91% من إجمالي التجارة بين الصين وأوروبا من حيث الحجم، فيما بلغت حصة النقل البري 3.3% فقط، ومن بين تلك الحصة الضئيلة تعامل الممر الشمالي مع أكثر من 86% من حركة المرور البرية بين الصين وأوروبا، وفق البنك الدولي.

البحث عن بدائل

أجبرت التحديات الأمنية الجديدة الدول الأوروبية على البحث عن طريق بري بديل يتيح تجنب الممر الشمالي الذي تهيمن عليه روسيا، ويقلل من الاعتماد على الطريق البحري الطويل، الذي يوجد فيه كثير من الاختناقات التي تتأثر بالأوضاع الجيوسياسية مثلما هو الحال في مضيق باب المندب، وقناة السويس.

ولذا برزت أهمية "ممر النقل الأوسط" المعروف باسم "طريق النقل الدولي عبر قزوين" (TITR)، وهو طريق نقل بري بحري يربط الصين بأوروبا، ويبدأ الشحن خلاله من الصين إلى كازاخستان بالسكك الحديدية، ثم يصل إلى ميناء أكتاو في كازاخستان، ليعبر بحر قزوين إلى ميناء باكو في أذربيجان، ثم يصل إلى جورجيا بالسكك الحديدية، ثم إلى جنوب أو وسط أوروبا إمّا عبر مواني البحر الأسود الجورجية، وإما عبر تركيا من خلال سكة حديد "باكو-تبليسي-قارص" حسب وجهة الشحن المتجه لها.

خريطة توضح مسار الممر الأوسط (موقع مشروع الممر الأوسط)

يتميز الممر الأوسط البالغ طوله 7000 كيلومتر بأنه أقصر طريق جغرافي بين غرب الصين وأوروبا مقارنةً بالممر الشمالي البالغ طوله 10 آلاف كيلومتر، والطريق البحري التقليدي البالغ طوله 20 ألف كيلومتر.

وقد حظي الممر الأوسط بأهمية مضاعفة لدى الدول الأوروبية بعد الحرب الروسية-الأوكرانية التي كشفت عن نقاط ضعف جوهرية لدى أوروبا فيما يتعلق بالطاقة وإدارة سلاسل التوريد، وإثر فرض عقوبات وقيود تصدير على روسيا، تأثرت التدفقات التجارية بين روسيا وأوروبا عبر الممر الشمالي، وانخفضت بنسبة 40% في عام 2022، وهو ما تسبب في تأخيرات كبيرة وزيادة في أسعار الشحن.

استعاد الممر الأوسط مكانته الاستراتيجية، نظراً إلى إمكانية الوصول الآمن إليه، فازدادت حركة الحاويات عبره بنسبة 33% في عام 2022 مقارنةً بعام 2021، وبدأت شركات شحن كبرى مثل شركة "ميرسك" الدنماركية، و"نورمنين" الفنلندية، و"سيفا" الألمانية، ومجموعة من شركات الشحن الصينية في استخدامه عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا.

الممر الأوسط والممر الشمالي والطريق البحري (معهد بحوث أذربيجان)

جذور مشروع الممر الأوسط

إثر نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، برز ملف موارد الطاقة في آسيا الوسطى على الأجندة التركية في ظل سعي أنقرة إلى تنويع وارداتها من الغاز والنفط، وحرصها على التحول إلى مركز لنقل الطاقة من آسيا الوسطى وبحر قزوين إلى الأسواق الأوروبية.

طرح السفير فاتح جيلان، مسؤول الشؤون التركية في روسيا والقوقاز بوزارة الخارجية التركية، فكرة مشروع الممر الأوسط عام 2009، وبدأت الخطوة الأولى لتنفيذه في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 عبر توقيع قادة شركات السكك الحديدية في كازاخستان وأذربيجان وجورجيا اتفاقية لإنشاء لجنة تنسيق لتطوير الممر الأوسط، وبدأ التنفيذ لخط سكك حديدية عابر لكازاخستان بطول 988 كيلومتراً، وافتُتح للعمل عام 2014.

في تلك الآونة دفعت العقوبات المفروضة على روسيا بعد ضمّها لشبه جزيرة القرم عام 2014، دول آسيا الوسطى إلى السعي لتنويع علاقاتها الخارجية بعيداً عن موسكو.

وجاءت الخطوة الثانية عبر تدشين خط السكة الحديد "باكو- تبليسي- قارص" عام 2017، بطول 829 كيلومتراً، وهو ما أتاح ربط أذربيجان وجورجيا وتركيا من دون المرور بروسيا، وذلك للمرة الأولى منذ إغلاق خط السكة الحديد بين أرمينيا وتركيا عقب الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في أوائل تسعينيات القرن العشرين.

التحديات العملية

رغم الميزات التي يقدمها الممر الأوسط فإنه توجد عقبات تؤثر في فاعليته، من أبرزها:

قدرات لوجيستية منخفضة:

تشكل تضاريس مسارات الممر الأوسط عقبة عملية، فهو ممر متعدد الوسائط يتكون من طرق بحرية وسكك حديدية، مما يجعل الخدمات اللوجيستية على امتداده أكثر تعقيداً، كما يحتاج إلى موانٍ عميقة مع انخفاض منسوب بحر قزوين عام 2023 إلى سالب 29 متراً تحت مستوى سطح البحر، كذلك يوجد نقص في سفن النقل وفي معدات المواني ببحر قزوين.

ولذا يبلغ الوقت اللازم لشحن البضائع عبر الممر الأوسط حالياً ضِعف نظيره في الممر الشمالي، إذ استغرق نقل البضائع من خورجوس في كازاخستان إلى كونستانتا في رومانيا أكثر من 50 يوماً عام 2022، وهو ما يؤثر في ميزة اختصار الوقت في الممر الأوسط مقارنةً بالطريق البحري أو الممر الشمالي.

اختلاف الإجراءات التنظيمية وضعف الرقمنة:

يؤدي تعدد المشغّلين بسبب عدم وجود مشغّل مسؤول عن النقل من المنبع نحو الوجهة النهائية، إلى إهدار الوقت، في حين يمكن للمستوردين الأوروبيين عبر الممر الشمالي التمتع بعرض سعر واحد وتسليم مبسط يديره مشغل واحد، كما يُعد التتبع في الوقت الفعلي للبضائع على امتداد الطريق باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، أمراً ضرورياً لضمان التبادل السريع للمعلومات بين مقدمي الخدمات والشاحنين.

ويؤدي غياب ذلك إلى حدوث تأخر عند نقاط العبور الحدودية. وبينما يستخدم بعض الدول أنظمة رقمية فإنها غير معمَّمة بعد بشكل موحَّد في دول الممر، وهو ما يؤدي إلى ازدواجية الوثائق، والافتقار إلى البيانات الموحدة، وتأثر كفاءة عمليات النقل في نقاط التماس بين مقدمي الخدمات في نفس البلد، وكذلك بين بلدان الممر.

مستقبل الممر الأوسط

إن آفاق الحرب بين أوكرانيا وروسيا؛ وسيناريوهات ما بعد الحرب، ومصالح الصين وروسيا في المنطقة؛ ومدى انخراط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في دعم الممر، هي أمور لها تأثير في حجم التجارة والشحن عبره.

ويتوقع البنك الدولي في دراسة نشرها عام 2023 تضاعف حركة المرور على طول خط الممر الأوسط، ثلاث مرات بحلول عام 2030 مقارنةً بعام 2021، لتصل إلى 11 مليون طن، من بينها 4.4 مليون طن بضائع منقولة بين الصين وأوروبا، وذلك في حال تنفيذ مشاريع تطوير البنية التحتية، وهو ما سيتيح له منافسة الممر الشمالي الذي تبلغ سعة الشحن به 100 مليون طن سنوياً، وإلا فإن الطلب على النقل عبر الممر الأوسط سينخفض ​​بنسبة 35%.

أما بنك التنمية الآسيوي فيرى أن تطوير الممر الأوسط سيُحدث تحولاً في اقتصادات آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا، وسيخلق بيئة مواتية لزيادة التجارة والنمو الاقتصادي بين الدول المارّ بها، وهو ما سيمتد مستقبلاً إلى بلدان أخرى في أوروبا ووسط وشرق آسيا عند ربطها به.

وكذلك ستستفيد أوروبا من تجنب المرور بالأراضي الروسية، مما يحرم موسكو من رسوم المرور، ومن التحكم في حركة النقل البري من أوروبا إلى الصين، لذا أعلن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في عام 2022 عن خطط لاستثمار أكثر من 100 مليون دولار في تطوير السكك الحديدية الكازاخستانية.

أما دول آسيا الوسطى التي تعاني ارتفاع تكلفة الشحن منذ توقف طريق الحرير القديم وافتقارها إلى المواني الساحلية، مما عرقل وصول سلعها إلى الأسواق الدولية، فيمثل الممر الأوسط لها شريان حياة جديداً، إذ ستستفيد منه في تعزيز التكامل الاقتصادي البينيّ، وسيساعدها على جذب استثمارات في بنيتها التحتية، وتقديم خدمات لوجيستية، وفتح أسواق جديدة لبضائعها، فضلاً عن تقليل الاعتماد على الشركاء التجاريين التقليديين وفي مقدمتهم روسيا.

وللدفع باتجاه استكمال تطوير الممر الأوسط، اجتمع في يونيو/حزيران 2022 وزراء الخارجية والنقل في تركيا وأذربيجان وكازاخستان، واتفقوا على تشكيل مجموعة عمل مشتركة لتحديث الشروط الفنية والضوابط الجمركية في جميع المواني المرتبطة بالممر، بهدف إزالة اختناقات العبور وتنسيق السياسات.

وبعدها بخمسة أشهر، جرى التوقيع على خريطة طريق بين أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وتركيا، لتدشين نظام موحَّد لأولويات الاستثمار في أجزاء الممر، بدلاً من عمل كل دولة بمفردها في الجزء الخاص بها، باعتبار أن التأخير في جزء محدود يمكن أن يعيق تدفق الشحن عبر الممر بالكامل.

وتؤكد دراسة مطوَّلة للبنك الدولي أن تطوير الممر الأوسط يتطلب اعتماد آلية مؤسسية تتجاوز حدود الدول، وتعمل على مواءمة السياسات الاقتصادية والتجارية والنقل بين دول العبور، مع تحديد قائمة المشاريع، ومصادر التمويل، والجداول الزمنية، والأطراف المسؤولة عن ذلك، وآليات تنفيذ المشروع، وتحسين التنسيق بين أجهزة الحدود، خصوصاً إدارة الجمارك.

وتلفت الدراسة إلى أهمية رقمنة عمليات الشحن وتوحيد أنظمتها، وتحسين الأداء في معابر بحر قزوين والبحر الأسود، مع التركيز على إزالة الاختناقات، فهي خطوات ستكفل للممر الأوسط أن يصبح طريقاً استراتيجياً جذاباً، لا سيما مع وجود احتمالات تعرقُل مشروع ممر "الهند-الخليج-إسرائيل-أوروبا"، الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي بايدن قبيل اندلاع الحرب في قطاع غزة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً