نتنياهو بايدن / صورة: مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي (مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي)
تابعنا

أعلنت ماكدونالدز قبل عدة أسابيع عزمها شراء 225 فرعاً لمطاعمها في إسرائيل من شركة ألونيل الإسرائيلية. كانت ألونيل وراء إعلان سلسلة مطاعم ماكدونالدز في إسرائيل تقديمها وجبات مخفضة أو مجانية لجنود الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن بعد هجوم السابع من أكتوبر، وإطلاق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وغصت مواقع التواصل بمقاطع فيديو الجنود الإسرائيليين وهم يحتفلون بالأكياس ذات القوسين الذهبيين.

خطوة الوكيل الإسرائيلي مثَّلت ضربة عنيفة للعلامة الأصلية في أسواق الإقليم كافة، جراء حملات مقاطعة المنتج، ولا شك أن كثيراً من وكلاء ماكدونالدز في الإقليم، وربما خارجه، قد عبّروا للشركة عن استيائهم، وربما استعدادهم للتخلي عن الامتياز، أو رغبتهم في خفض المقابل الذي تتلقاه ماكدونالدز جراء منحها هؤلاء الوكلاء هذا الامتياز.

لم تكن ماكدونالدز بالتأكيد على استعداد للتخلي عن السوق الإسرائيلية مهما كانت التكلفة، لكنها كانت من الحكمة بما يكفي كي لا تسمح لوكيلها الإسرائيلي بتكبيدها خسائر مجانية جراء مبادراته الحمقاء، لذلك قررت ماكدونالدز أن تتوجه بنفسها إلى إدارة فروعها في إسرائيل رأساً دون وسطاء هذه المرة.

لا تختلف العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة كثيراً عما عليه الحال بين ألونيل الإسرائيلية وماكدونالدز، لكن التوتر بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية الحاليتين بدأ مبكراً قبل هجوم السابع من أكتوبر.

بعد شهر عسل جديد عاشته البلدان في ظل إدارة ترامب بين عامي 2017 و2020، جاء الرئيس الديمقراطي جو بايدن حاملاً رياح التغيير التي أسفرت في إسرائيل عن الإطاحة بنتنياهو وتولي ائتلاف حكومي بدا أقرب قليلاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يكمل بايدن نصف عامه الأول في البيت الأبيض قبل أن تنجح إسرائيل في ضبط إيقاعها السياسي إلى حد ما مع راعيتها الأمريكية عبر تحالف واسع يضم أطياف اليمين المتنوعة، نفتالي بينيت من اليمين الديني التقليدي في إسرائيل، أي ذلك الذي ورث حزب "مفدال" العريق دون الامتزاج بالصهيونية الدينية المتطرفة التي أرسى قواعدها الحاخام المتطرف مائير كاهانا.

بجانب بينيت، كان يائير لابيد، ممثل اليمين الليبرالي، التيار الأكثر تناغماً مع سياسات الديمقراطيين الأمريكيين، وبيني غانتس، قائد الجيش الإسرائيلي الأسبق، رمزاً لرجل الدولة القادم من قلب المؤسسات الإسرائيلية. وتجدد الربيع يحدوه هذه المرة حلم الناتو الإقليمي الذي يجمع حلفاء الولايات المتحدة من العرب تحت قيادة إسرائيل، وهو الحلم الذي أرسى أنطوني بلينكن، بالشراكة مع يائير لابيد، لبِناته الأولى في النقب خلال ربيع 2022.

لكن الربيع الأمريكي-الإسرائيلي لم يستمر طويلاً، إذ عادت رياح السموم، عندما وجد بنيامين نتنياهو لعبة جديدة تعيده إلى عرش إسرائيل، هذه المرة عبر التحالف مع اليمين الكاهاني الشعبوي الذي سبق أن حظرته المحكمة العليا الإسرائيلية في الثمانينيات من القرن الماضي، ممثلاً في إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لتفرض الكاهانية نفسها أخيراً على السياسة الإسرائيلية بعد عقود من المحاولات الفاشلة لحصارها.

لم يكن الائتلاف الحكومي الجديد فرصة لتأمين أغلبية برلمانية مستقرة لحكم نتنياهو فحسب، على أمل إنهاء 4 سنوات من الفوضى السياسية في إسرائيل جراء عجز الأحزاب المختلفة عن حسم أغلبية مطلقة في البرلمان، وإنما كان فرصة شخصية لنتنياهو نفسه للإفلات من الملاحقات القضائية التي يواجهها.

التقت مصالح المتطرفين جميعاً هذه المرة ضد المؤسسة القضائية الإسرائيلية نفسها، التي حاول أهارون باراك أن يحولها في الثمانينيات والتسعينيات إلى حارس للعلمانية الإسرائيلية.

كان عام 2023 لذلك عاماً حافلاً في إسرائيل كما هو معروف، وألقى ذلك بظلاله على العلاقات مع الولايات المتحدة، ليخرج بايدن في منتصف يوليو من ذلك العام واصفاً الحكومة القائمة في إسرائيل أو ائتلاف نتنياهو-سموتريتش-بن غفير بأنها الحكومة "الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل".

تعويم نتنياهو

جاء هجوم السابع من أكتوبر ليقدم لجو بايدن فرصة مثالية للتخلص من هذا التحالف الذي لا يهدد العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية فحسب، وإنما يهدد مصالح إسرائيل نفسها عبر ما يخلقه من توترات اجتماعية وتفكيك لمؤسسات الدولة وتقاليدها، فضلاً عن اندفاع الدولة إلى مغامرات وصدامات من شأنها أن تجعل إسرائيل حملاً ثقيلاً على رُعاتها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كانت رأس حربة استعماريّاً مثاليّاً.

لم تكن المسألة في تلك اللحظة هي "هل تدعم الولايات المتحدة إسرائيل أم لا؟"، فقد أثبتت الحرب الأخيرة للمرة المائة مدى سذاجة مثل هذا السؤال، لكن السؤال كان حول الكيفية التي سيُقدَّم بها هذا الدعم والآليات التي تضمن استقراره.

أمام الفرصة السانحة لتسجيل هدف سهل، اختار بايدن أسوأ خيار ممكن، ألا وهو تعويم بنيامين نتنياهو نفسه وحلفائه. لم يكتفِ بايدن بالإبقاء على حكومة نتنياهو-سموتريتش، بل شجّع انضمام غانتس إلى الحكومة بلا مقابل في تصور ساذج مفاده أن تشكيل مجلس الحرب سيكون كافياً للسيطرة على مناورات نتنياهو.

جاءت اللقطة الثانية بعد ذلك بأيام، وبالتحديد في السابع عشر من أكتوبر عندما وقعت أول مجزرة إسرائيلية بحق المستشفيات في قطاع غزة، وبالتحديد المستشفى الأهلي المعمداني. عوضاً عن أن يسارع بايدن إلى فرض خطوط حمراء من شأنها ضبط إيقاع حكومة وصفها بايدن نفسه بأنها "الأكثر تطرفاً"، سارع الرئيس الديمقراطي إلى تقديم الغطاء إلى حلفائه متحلياً بقصر نظر لا يُحسد عليه، إذ إن تغطية الجريمة، وإن أفادت إسرائيل لأيام، فإنها شجَّعتها على ارتكاب مزيد من المجازر، ما حوَّل الحرب إلى وصمة تهدد مصالح الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها وإسرائيل.

بعدها بيومين فقط، جاء العناق الشهير بين بايدن ونتنياهو، ثم الاحتضان الذي تصوره بايدن استعراضاً وصائيّاً أمام نتنياهو الكسير، ليحسم استمرار الأخير متوَّجاً بدعم أمريكي غير مشروط.

رغم ذلك، لم يكد يمر الشهر الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة حتى بدأ نتنياهو في التكشير عن أنيابه. فالزعيم اليميني كان قد اعتاد تقديم نفسه بوصفه السياسي الإسرائيلي الأقدر على حماية استقلال قرار بلاده، أو بالأحرى جموحها الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، في مواجهة الضغوط الأمريكية التي قاومها نتنياهو بتبجُّح شديد إبان فترة باراك أوباما.

لم يتورع نتنياهو قبل أن ينتهي شهر أكتوبر عن حشد نواب حزبه من ورائه تحت شعار رفض حل الدولتين، الذي تدعو إليه الولايات المتحدة. أما التحالف الليكودي الكاهاني، فقد بدا بمرور الأيام في الحرب تحالفاً وجودياً أوثق كثيراً من مناورة القبول بغانتس ولعبة الإنقاذ الوطني التي لا يحبذها نتنياهو.

كان ما حدث في الواقع محاولة انتهازية من بايدن للعب لعبة خطيرة، هي خلق اصطفاف أمريكي عابر للحزبين وراء دعم إسرائيل، يضمن لبايدن عهدة جديدة دون معركة تكسير عظام لا يريدها مع منافس شرس كدونالد ترامب، لكن بايدن لم ينتبه إلى أن الحكومة الإسرائيلية التي أعطاها قبلة الحياة عبر عناقه الحميمي مع نتنياهو ستظل تفضل عليه وجها أكثر صفاقة كدونالد ترامب، معشوق الحكام العرب والإسرائيليين الذي لا يثرثر كثيراً كالديمقراطيين بنفاق حول حقوق الإنسان.

خسر بايدن دعم القطاعات التقدمية في قاعدته الانتخابية، وهي القطاعات التي أدخلته البيت الأبيض رغم بؤس حظوظه وفقر فريق مساعديه الذين لا يُظهرون الرصانة اللائقة برجال دولة (يبدو جون كيربي أقرب إلى ممثل مسرحي هزلي منه إلى رجل دولة عندما يحاول تصنُّع الانفعال لإسكات انتقادات الصحفيين أو إسالة الدموع لإظهار التعاطف العميق مع الإسرائيليين). وفي المقابل، لم يكسب بايدن ثقة اليمين الأمريكي المتطرف الذي لا تُرضيه انتقادات بايدن التجميلية لإسرائيل مهما حاول بايدن أن يقدم بعد ذلك لتأكيد ولائه الكامل لعقائد هذا اليمين ومصالحه.

الإمبراطور رهيناً

بدا واضحاً خلال الشهور الماضية أن الحرب التي تشنُّها إسرائيل على قطاع غزة هي حرب الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بقدر ما هي حرب إسرائيل، وأن الولايات المتحدة ليست أقل حماسة من إسرائيل أو استعداداً للإبادة والتهجير في سبيل القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية من الدولة الصهيونية، لكن المسألة في سياسات بايدن لم تكن تتعلق بإسرائيل، تماماً كما أن ماكدونالدز لم تكن مستعدة بحال أن تتخلى عن السوق الإسرائيلية، وإنما المسألة هي كيف تخوض الإمبراطورية حربها، وإلى أي مدى ينصت الوكيل لصوت مانح الامتياز وتوجيهاته.

يخرج بايدن اليوم من المعركة خاسراً كل شيء، فهو أولاً يخسر قطاعاً واسعاً من قاعدته التي منحته الامتياز في مواجهة ترامب، كالمُلونين والمسلمين والطلاب الذين رأوا الشرطة الأمريكية تسحقهم في مشاهد مفزعة في ظل تواطؤ مخيب من البيت الأبيض، لا يبدو معه بايدن مجرد وجه آخر لترامب فحسب، بل يبدو أيضاً وجهاً ضعيفاً ومهتزّاً عاجزاً عن إلجام جنون الجمهوريين في الكونجرس.

تخرج الولايات المتحدة خاسرة موقعها الذي حاولت الاحتفاظ به خلال العقود الأخيرة في فلسطين، باعتبارها وسيطاً دوليّاً منحازاً لإسرائيل، لكنه قادر على دفعها إلى القبول بمسار تفاوضي من شأنه أن يقود إلى تسوية ما واحتواء نتائج الاحتلال.

لا يمكن للولايات المتحدة اليوم أن تلعب هذا الدور بعد أن شاركت مشاركة كاملة، وربما كانت هي الطرف الفاعل الأساسي، في جريمة إبادة الفلسطينيين عبر أطنان من قنابل MK التي حصدت أرواح ما يزيد عن 35 ألف فلسطيني إلى الآن، فضلاً عن ذلك، فقد خسرت الولايات المتحدة ما راكمته منذ سنوات طويلة من ادعاءات حول انحيازاتها الإنسانية والحقوقية، وقدمت بنفسها أدلة واضحة لخصومها على أن ديمقراطيتها تُخفي وراءها شمولية قد تتجاوز في بربريتها بعض خصومها عبر التاريخ.

تخرج إسرائيل نفسها خاسرة من الناحية السياسية بغض النظر عن نتائجها العسكرية التي تبدو أيضاً مخيبة لها إلى الآن، فلم تخسر إسرائيل سمعتها باعتبارها آلة حرب احترافية فحسب بعد أن قضت شهوراً تتكبد الضربات في قطاع غزة وتنتقم من النساء والأطفال، وإنما أيضاً تبدو إسرائيل اليوم كياناً متطرفاً تقوده مجموعة من الشعبويين المهووسين دينيّاً، بحيث يشكل هذا الكيان عبئاً على رُعاته وداعميه، بعد أن كان يشكل بالنسبة إليهم مركزاً استعماريّاً متقدماً يضمن مصالحهم.

يبدو اليوم عناق بايدن لنتنياهو في التاسع عشر من أكتوبر الماضي كأنه عناق الأفاعي، غير أن أفعى نتنياهو كانت أكثر براعة كثيراً، فلم تُفلت من قبضة خصمها فحسب، بل التفت هي عليه لتحوّل رئيس أكبر دولة في العالم إلى رهينة لشخص مثل بن غفير، تنم كل كلمة يتفوَّه بها عن مستوى هائل من الدناءة والضحالة والتطرف، بعد أن فشل بايدن في إدراك ما أدركته ماكدونالدز، وهي ضرورة أن تتدخل الإمبراطورية أحياناً لإدارة شؤون ولاياتها بنفسها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً