تابعنا
خصّص توماس فريدمان عموده الصحفي منذ بدء طوفان الأقصى لتناول الحرب في  غزة، وما ينبغي فعله أمريكياً تجاهها، ثم بشّر في مقاله عن "عقيدة بايدن في الشرق الأوسط" بقرب ميلاد ملامح استراتيجية أمريكية جديدة لمعالجة الحرب في المنطقة

لم يحظَ مقالٌ صحفيٌّ يخصّ الحرب الجارية على قطاع غزة بمستوى تفاعل في الأوساط الأمريكية والإسرائيلية بقدر ما حظي به المقال الذي نشره الصحفي اليهودي-الأمريكي توماس فريدمان في 31 يناير/كانون الثاني الماضي، وأشار خلاله إلى قرب تشكل خطة أمريكية للشرق الأوسط وصفها بـ"عقيدة بايدن".

إنّ أهمية ما كتبه فريدمان لا تنبع من عمق علاقته بإسرائيل التي قضى بها جزءاً من شبابه في عام 1968 للاحتفال بانتصارها في العام السابق، ولا بخبرته في المنطقة التي تضمنت تغطيته ميدانياً للحرب الأهلية في لبنان والغزو الإسرائيلي في عام 1982، أو إدارته لمكتب صحيفة نيويورك تايمز في القدس من عام 1984 إلى 1988، أو حتى كتابته منذ ثلاثة عقود إلى الآن لعمود الشؤون الخارجية في الصفحة الافتتاحية لنيويورك تايمز.

إنما تنبع من قربه الوثيق من إدارة بايدن، الذي أهَّله لأن يكون ناطقاً غير رسمي باسمها، وهو دور مارسه في البيت الأبيض منذ عمل به عام 1992 مراسلاً لنيويورك تايمز، وتوَّجَه في عام 2002 بإقناع الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، حين التقاه، بطرح مبادرة للسلام مع إسرائيل سرعان ما اشتهرت باسم مبادرة السلام العربية، لكنها لم تجد أذاناً إسرائيلية مصغية، ودخلت غياهب النسيان.

ملامح عقيدة بايدن

خصّص توماس فريدمان عموده الصحفي منذ بدء طوفان الأقصى لتناول الحرب في قطاع غزة وآفاقها، وما ينبغي فعله أمريكياً تجاهها، ثم بشّر في مقاله عن "عقيدة بايدن في الشرق الأوسط" بقرب ميلاد ملامح استراتيجية أمريكية جديدة لمعالجة الحرب متعددة الجبهات التي تشمل غزة وإيران وإسرائيل والمنطقة، وتقوم على ثلاثة مسارات.

المسار الأول اتخاذ موقف أمريكي حازم تجاه إيران عقب مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن على أيدي فصائل عراقية موالية لإيران، والتصدي للجهود الإيرانية الساعية لإخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وهو ما تجلت مؤشراته في الضربات الأمريكية المتعددة لمقرات وقادة الميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق، فضلاً عن الغارات الأمريكية-البريطانية ضد الحوثيين في اليمن.

ويتمثل المسار الثاني في طرح مبادرة دبلوماسية أمريكية تروّج لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية التي تضمن قابلية تلك الدولة للحياة، وعدم تهديدها مطلقاً لإسرائيل.

أما المسار الثالث فهو تدشين تحالف أمني أمريكي-سعودي يتضمن تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية.

وتأمل إدارة بايدن من خلال ربط المسارات الثلاثة معاً في تنفيذ أكبر إعادة تنظيم استراتيجي في المنطقة منذ معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في عام 1979، بحيث يساهم طرح مسار الاعتراف بدولة فلسطينية في عزل إيران سياسياً وعسكرياً، ويضغط على نتنياهو الرافض لمناقشة خيار اليوم التالي للحرب، ويرسم مساراً للتسوية يشجع الدول العربية على الانخراط فيه والتطبيع مع إسرائيل.

كما سيساهم في إنقاذ إسرائيل من فقدانها المتزايد للشرعية عالمياً على وقع المجازر التي ترتكبها، ويخلصها من ورطة خوض حروب متزامنة على جبهات عدّة، وأخيراً لتحقيق مكاسب انتخابية لبايدن الذي تنتظره منافسة شرسة على مقعد الرئاسة نهاية العام الجاري، كما ستساهم في تفرّغ واشنطن لملف كبح الصعود الصيني والحرب في أوكرانيا.

أحلام أم مناورة سياسية؟

إنّ صُلب عقيدة بايدن يقوم على أحلام قد ترقى إلى مستوى الأوهام، إذ تتجاهل حقائق سياسية وتاريخية وواقعية ودينية راسخة، ففي إسرائيل لا يوجد أي سياسي راغب في سلام حقيقي، وهو ما عبّر عنه بجلاء الرئيس الإسرائيلي المحسوب زوراً على جناح الحمائم إسحق هرتسوغ في كلمته بمنتدى دافوس منذ بضعة أسابيع، إذ قال: "لا يوجد إسرائيلي بكامل قواه العقلية يفكر في حل الدولتين في الوقت الحالي".

ويرى المنظّرون الأمنيون الإسرائيليون أن اتفاق أوسلو جلب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى جوار المراكز الاستيطانية الإسرائيلية الرئيسية في الضفة الغربية وأراضي 48، وأن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 أدى إلى سيطرة حزب الله على الحدود وتعزيز قوته فيها، وأن الانسحاب الأحادي من غزة عام 2005 مهّد الطريق لسيطرة حماس على القطاع ومراكمتها للقوة وصولاً إلى تنفيذ طوفان الأقصى، وبالتالي فإن معركتهم مع الفلسطينيين وجودية، لأن هيمنة أحد الطرفين -وفق الرؤية الإسرائيلية- لن تتحقق سوى على حساب الطرف الآخر.

إنّ خطوط إسرائيل الحمراء للسلام تتمثل في الاحتفاظ بالقدس، ورفض عودة اللاجئين، والاعتراف الفلسطيني بإسرائيل وطناً قومياً لليهود، والإقرار بالسيادة الأمنية الإسرائيلية على أي مناطق يحكمها فلسطينيون، ووقف أي نشاط مقاوم ضد الاحتلال، وتغيير مناهج التعليم لإزالة أي مقررات تتحدث عن الاحتلال أو الحق التاريخي للفلسطينيين في أرض فلسطين.

هذا في حين تدعو الجهات الإسرائيلية الأشد تطرفاً مثل الأحزاب الدينية اليمينية لتهجير الفلسطينيين وطردهم من قطاع غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية والقدس إلى الأردن، وبالتالي لا يوجد طرف إسرائيلي يريد أن ينخرط في عملية سلام مبنية على حل الدولتين.

وإنّ السياق الذي أنتج مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو في عام 1993 ارتبط بتفكك الاتحاد السوفييتي وتفرُّد الولايات المتحدة بالهيمنة عالمياً، وقد وظّفت واشنطن تلك اللحظة التاريخية للدفع باتجاه حل نهائي للصراع العربي-الإسرائيلي، وهو ما احتل الأولوية على أجندة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لمدة ثماني سنوات، لكنه فشل، ومات اتفاق أوسلو مع تنصُّل إسرائيل من تنفيذ بنوده.

أما السياق الدولي والإقليمي الآني فلا يواتي إنجاح عملية سلام من النوعية التي يشير إليها فريدمان، فالولايات المتحدة لم تعُد تشغل مقعد القيادة العالمي بمفردها، ولديها ما يشغلها، بداية من الصعود الصيني اقتصادياً وعسكرياً، إلى الانبعاث الروسي الساعي لوقف التعدّي الغربي على مناطق نفوذ موسكو في جوارها القريب، كما تبرز في الشرق الأوسط قوى متوسطة لديها مصالح وقدرات عسكرية متنامية مثل تركيا وإيران، ولا يمكن إعادة ترسيم المنطقة مع تجاهلها.

إنّ سياسة واشنطن المنحازة إلى تل أبيب في القضية الفلسطينية لا تؤهلها لطرح حلول حقيقية، وقد انتهت محاولات بوش الأب ثم بيل كلينتون للدفع باتجاه سلام يلبي مطالب إسرائيل بالدرجة الأولى ويتجاهل المطالب الفلسطينية الأساسية باندلاع الانتفاضة الثانية، التي مثلت إعلاناً عملياً بوفاة مسار أوسلو مع اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدن الضفة الغربية، ومحاصرة مقرّ رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات حتى وفاته.

أما اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وطرحه لصفقة القرن العقيمة، ودعمه لمسار التطبيع العربي-الإسرائيلي المتجاهل للقضية الفلسطينية، فقد رسم المسار الذي أوصل إلى طوفان الأقصى، فيما تبخر منتدى النقب الذي رعته إدارة بايدن، ولم يكن له أي دور في تهدئة لهيب الحرب، بل تأجل انعقاده من دون تحديد موعد لاحق يجمع المشاركين به.

وبالتالي فإنّ أيّ محاولة من بايدن للاعتراف بدولة فلسطينية منقوصة، دولة منزوعة السلاح ولا تملك جيشاً، مع إسقاط حق العودة وتجاهل ملفات القدس والمسجد الأقصى، لن تنجح. كما أنها تتجاهل السياق الحالي الذي يشهد صعوداً لنهج المقاومة، فضلاً عن تنامي الغضب الشعبي العربي والإسلامي ضد المجازر الإسرائيلية، وتزايد احتمالات حدوث تغييرات درامية في عديد من الدول المجاورة لفلسطين، التي تشهد أزمات اقتصادية متفاقمة وانسداداً سياسياً غير مسبوق.

بناءً على ما سبق، يُرجَّح أن إدارة بايدن تمهِّد لمناورة سياسية قُبيل الانتخابات الأمريكية، تسترضي بها أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين الغاضبين من الدعم المطلق الذي قدمته إلى تل أبيب، ولرفع الحرج عن الدول العربية المطبعة وتشجيعها على الانخراط في إعادة إعمار غزة، وللضغط على حكومة نتنياهو لمنعها من سحب واشنطن لمعركة إقليمية واسعة لا تريدها، وليست من مصلحتها، وهو ما بدأت تنخرط فيه عبر شن ضربات عسكرية تمتد من العراق وسوريا إلى اليمن.

ولذا يمكن القول إنّ "عقيدة بايدن للشرق الأوسط" التي يبشر بها فريدمان ماتت قبل أن ترى النور، فهي أقرب إلى الحمْل الكاذب، وبالتحديد في مسارها المتعلق بالقضية الفلسطينية.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً