تابعنا
إن الاعتماد الإسرائيلي المفرط على التكنولوجيا لعب دوراً هاماً في نجاح طوفان الأقصى، لكن الفشل لم يكن تقنياً، إنما كان بشرياً تجلّى في الإخفاق بفهم التطورات التي حدثت داخل قيادة حماس منذ عام 2017، والاستجابة لمخطط التضليل الحمساوي.

مع اندلاع الحرب في قطاع غزة لم تقتصر الزيارات الأمريكية لإسرائيل على المسؤولين بداية من الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن ومستشاره للأمن القومي سوليفان ووزير دفاعه لويد أوستن، إنما شملت أيضاً سيلاً من زيارات الكُتاب والصحفيين والباحثين للاطلاع على ما حدث صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفهم تداعياته، وتقديم توصيات بخصوص التعامل معه.

وقد نظّم "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" الذي يُعَدّ جوهرة مراكز التفكير الأمريكية المختصة بقضايا الأمن والدفاع زيارة لوفد من باحثيه إلى إسرائيل، وكتب عضو الوفد وخبير مكافحة الإرهاب دانيال بايمان مقالاً طويلاً في فورين أفيرز نقل خلاله تصريحات عن مسؤول أمني إسرائيلي.

وقال بايمان إن "شيئاً أساسياً قد انكسر في إسرائيل في ذلك اليوم، لقد قالت الاستخبارات للمواطنين قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول: نحن نعرف حماس، في حين قال الجيش: نحن قادرون على التعامل مع حماس، لكن تبين أن كلا الأمرين غير صحيح، ومن الصعب الآن على القادة الإسرائيليين طمأنة الجمهور بأن الجيش وأجهزة الاستخبارات ستحافظ على سلامتهم في المرة القادمة".

إن التصريح أعلاه، بجوار اعتراف القائد السابق للقيادة الجنوبية بالجيش الإسرائيلي يوم توف سامية، بعدم وجود "استعداد دفاعي مسبق، ولا تدريب، ولا معدات، ولا عملية بناء قوة لمواجهة هجوم مثل الذي حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول"، لعدم توقع تنفيذ كتائب القسام عملية عسكرية بهذا الحجم، يشير إلى أن إسرائيل تعرضت لإخفاق استخباري إستراتيجي، وليس فقط لإخفاق تكتيكي عملياتي يتعلق بفشل اكتشاف موعد الهجوم وحجمه.

الإخفاق الاستخباري الاستراتيجي

تميز الأدبيات الأكاديمية في حقل الاستخبارات بين الاستخبارات التكتيكية التي تهدف إلى الكشف عن الأسرار التي يخفيها الخصم وتتعامل مع القضايا المادية الملموسة، وبين الاستخبارات الاستراتيجية التي تتعلق بفهم قدرات الخصم العسكرية، ونيته في توظيفها، والاعتبارات التي تؤثر في قراراته الاستراتيجية، وملاحظة التحولات لديه حين حدوثها، ومدى تأثره بالردع.

وقد صرح تساحي هنغبي مستشار الأمن القومي الإسرائيلي في مقابلة إذاعية قبل ستة أيام من عملية طوفان الأقصى بأن "سلوك حماس منضبط للغاية، وهي مردوعة لأنها تدرك عواقب تحدي إسرائيل"، ولم تمضِ بضعة أيام حتى تبين أن تشخيص هنغبي لحماس على المستوى الاستراتيجي خاطئ تماماً.

وتبين أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المتعددة، بما فيها الاستخبارات العسكرية (أمان) رأس حربة المنظومة الأمنية الإسرائيلية والمختص بالتقدير الاستخباري الوطني، وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) المختص بمكافحة الإرهاب والتجسس والتمرد والاستخبارات الداخلية، فشلوا في القيام بمهمتهم الرئيسية، المتمثلة في حماية صُنّاع القرار من المفاجآت الاستراتيجية، كما أخفقوا في تكوين فهم جيد لنيات حماس، وتوفير إنذار مبكر تجاه العملية العسكرية الفلسطينية المباغتة، وتبين أنّ الثقة التي تحدث بها هنغبي لم تكن سوى ثقة زائفة بالنفس.

معضلة الاعتماد على التكنولوجيا

يرى المخططون الاستراتيجيون الإسرائيليون أن دولتهم البالغ عدد سكانها 7 ملايين تعاني من محدودية قدراتها البشرية مقارنةً بالمحيطين العربي والإسلامي الذي تعيش فيه، ولذا لديها أولوية في الاعتماد على التفوق التكنولوجي لتطوير قدراتها العسكرية بما يحفظ تفوقها النوعي، وهو ما يمتد ليشمل الاستناد إلى الاستخبارات التقنية أساساً لفهم الخصم وقدراته ونياته بما يكفل خوض حرب سريعة ضدّه بأقل قدر من الضحايا مع تحقيق نصر حاسم، لذا تُعتبر الاستخبارات خط الدفاع الأول في العقيدة الأمنية الإسرائيلية.

ضمن تلك الرؤية تنامى قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل ليشغل نحو 9% من إجمالي قوة العمل، إذ يضم خريجي أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وعمل بالتناغم مع أجهزة الدولة في تطوير أنظمة المراقبة والأمن السيبراني والاتصالات.

وبرزت إسرائيل في استخدام البيانات الضخمة وأدوات الذكاء الصناعي في إدماج عمليات جمع المعلومات وتحليلها وربطها بالبُعد العملياتي من أجل تقديم معلومات استخباراتية عالية الدقة في الوقت الحقيقي، ولجأت إلى رقمنة الاستخبارات لاختصار دورة الاستخبارات التقليدية التي تقوم على سلسلة متتالية تبدأ بجمع المعلومات ثم تحليلها ثم تقديم المهم منها إلى الجهات المعنية.

لذلك صرّح الجنرال هاليفي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حالياً، في أثناء قيادته للاستخبارات العسكرية (أمان) خلال الفترة الممتدة من 2014 إلى 2018، بأن "التفوق الاستخباري في المجال الرقمي سيكون العامل الرئيسي في نمط عمل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في العقود القادمة".

لقد تبدد كل ذلك صبيحة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتبين أن حماس عبر الإبداع تمكنت من التغلب على تقنيات المراقبة والاستطلاع والحماية الإسرائيلية، وتبين أن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية لم تتوقع هجوم حماس، ولم تجهز قدرات تشغيلية مناسبة للتعامل معه، بل ولم تعدّ أي خطة طوارئ لمواجهة هجوم شبيه، كما أنها على المستوى التكتيكي لم تلتقط "الإشارات الضعيفة" التي تمكنها من اكتشاف التهديد الاستراتيجي لحماس في الوقت المناسب.

وعلى سبيل المثال، في سبتمبر/أيلول 2023 نظمت الأجنحة العسكرية التابعة لفصائل المقاومة العاملة ضمن الغرفة المشتركة في قطاع غزة مناورة عسكرية علنية باسم "الركن الشديد 4"، شملت عمليات محاكاة لاقتحام مستوطنات وخطف جنود إسرائيليين واستخدام المسيرات الانتحارية، لكن الاستخبارات الإسرائيلية تعاملت مع المناورة على أنها تدريب روتيني غير قابل للتنفيذ عملياً.

إنّ الإعداد لعملية عسكرية بحجم طوفان الأقصى يتطلب عادة مدة طويلة، ويتردد أنه استغرق سنتين، وهي مدة كافية لتسرب بعض المعلومات هنا وهناك رغم الإحكام الأمني لكتائب القسام وما واكبه من عمليات تضليل مقصود للإيحاء بالتعايش مع الواقع الموجود في غزة من دون الرغبة في خوض صراع واسع.

وقد كشف عديد من التقارير الاستقصائية التي نشرتها الصحف الإسرائيلية والأمريكية أن تل أبيب توافرت لها معلومات جزئية تكفي للقلق وإصدار تحذير من هجوم وشيك، لكن التصوّر المسبق الخاطئ عن حماس والتحيّز المعرفي قادا إلى قراءة خاطئة للواقع، وعزّز ذلك غياب مصادر بشرية داخل قيادة كتائب القسام، فأصيبت إسرائيل بعمى استخباري لم تستفق منه سوى مع اجتياح الآلاف من مقاتلي القسام للجدار العازل مع قطاع غزة، وسيطرتهم على قيادة فرقة غزة بالجيش الإسرائيلي بعد انهيار خط الدفاع الأمامي بالكامل في أقل من ثلاث ساعات.

حماس وتقويض الاستخبارات البشرية

إنّ المصادر البشرية من أخطر أدوات جمع المعلومات مقارنة بغيرها من المصادر، مثل استخبارات الإشارة والاختراق السيبراني والتصوير الجوي، فمن خلالها يمكن التعرف على أنماط تفكير القادة وسماتهم النفسية، ومسؤوليات كل منهم، ودوائر العلاقات والداعمين، ومخازن الأسلحة، وورش تصنيعها، وطرق الحصول عليها، والمخابئ، والمشكلات الداخلية، والخطط المستقبلية، وغيرها من المعلومات التي يصعب الحصول عليها عبر المصادر الأخرى.

لقد اهتمت حماس مبكراً بمكافحة التجسس البشري، حتى إنها أسست جهاز "المجد" الأمني في عام 1986 قبل الإعلان رسمياً عن عمل الحركة في العام التالي، وركزت على تعقب العملاء وإعدامهم خلال الانتفاضة الأولى.

ثم تطور العمل الأمني ليشمل استهداف المشغلين الإسرائيليين مثلما حدث في عام 1993 عندما اغتال عضو حماس ماهر أبو سرور مشغله الإسرائيلي ضابط الشاباك حاييم نحماني في القدس، وهو ما كرره عبد المنعم أبو حميد في عام 1994 مع ضابط الشاباك ومشغله نوعام كوهين في رام الله.

ثم بدأت كتائب القسام في استخدام العملاء المزدوجين لاستدراج الجيش الإسرائيلي لفخاخ معدّة مسبقاً، كما في حادث استدراج قوة عسكرية إلى نفق مفخخ قرب معبر كارني شرق مدينة غزة في عام 2004 وتفجيره، مما أدى إلى مقتل جندي إسرائيلي وإصابة أربعة آخرين.

مع انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 تطورت إدارة الاستخبارات العسكرية بكتائب القسام لتعمل بشكل منهجي أكثر تعقيداً، ونجحت على سبيل المثال في تشغيل عميل مزدوج لمدة سنتين بين عامَي 2016 و2018، بعد أن حاولت إسرائيل استخدامه للتعرف على أنواع الصواريخ لدى المقاومة، ومدى كل طراز منها، وتحديد مواقع إطلاقها لمهاجمتها بشكل استباقي حين حدوث قتال.

وتمكنت المقاومة عبر العميل المزدوج من التعرف على البرامج والأدوات التي تستخدمها الاستخبارات الإسرائيلية في تشغيل العملاء داخل القطاع، ووسائل التواصل معهم، وسجلت كل ذلك ثم نشرته في فيلم وثائقي بعنوان "سراب" لتحقيق نصر أمني ومعنوي على الجانب الإسرائيلي، وترهيب عملائه داخل غزة.

من خلال نمط العمليات السابقة ألحقت المقاومة أضراراً بعمليات الاستخبارات الإسرائيلية البشرية، وأثبتت قدرتها على تحويل العملاء إلى سلاح مضاد لإسرائيل، وتوظيفهم في عمليات مطولة تستنزف المشغلين الإسرائيليين من حيث الوقت والموارد.

وبما أن عمليات الاستخبارات البشرية تتطلب جهداً كبيراً من الناحية اللوجستية مقارنةً بالاستخبارات التقنية، فقد اعتمدت إسرائيل بالدرجة الأولى خلال السنوات الأخيرة على أجهزة الاستشعار والكاميرات، وطائرات المراقبة دون طيار، والمناطيد، والتنصت على الاتصالات في جمع المعلومات، وتشكيل الصورة الاستخبارية عن حماس، وصولاً إلى تقليل عدد الجنود الإسرائيليين على الحدود والاعتماد على المدافع الرشاشة التي تعمل تلقائياً حين رؤية أهداف، والجدار العازل بتقنياته المتطورة.

وعندما تمكنت المقاومة من تحييد ذلك عبر الابتكار والإبداع، انهارت الاستخبارات الإسرائيلية صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول، وظل قادة الجيش والمسؤولون السياسيون في تل أبيب لا يفهمون ما الذي يحدث لساعات عدّة، بل يتابعون التطورات عبر شاشات الفضائيات وما تبثه عليها حماس من مقاطع مصورة.

وقال يوئيل جوزانسكي، المسؤول البارز السابق بمجلس الأمن القومي الإسرائيلي: "لقد أنفقنا المليارات في جمع المعلومات الاستخبارية عن حماس، ثم في ثانية واحدة انهار كل شيء مثل قطع الدومينو".

إخفاق ممتد

لقد امتد الإخفاق الاستخباري إلى ما بعد بدء الحملة البرية على قطاع غزة، إذ فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تحديد أماكن أغلب الأسرى داخل القطاع أو الوصول إليهم وهم أحياء رغم عددهم الكبير الذي ناهز 240 أسيراً قبل إطلاق سراح 105 منهم في الهدنة الإنسانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كما فشلت في تحديد أماكن كبار قادة حماس وكتائب القسام رغم مضي ثلاثة أشهُر من الحرب.

إن الاعتماد الإسرائيلي المفرط على التكنولوجيا لعب دوراً هاماً في نجاح طوفان الأقصى، لكن الفشل لم يكن تقنياً، إنما كان بشرياً تجلّى في الإخفاق بفهم التطورات التي حدثت داخل قيادة حماس منذ عام 2017، والاستجابة لمخطط التضليل الحمساوي، والفشل في تجنيد مصادر بشرية داخل قيادة المقاومة، والثقة الزائفة بالنفس، وعدم تقدير جرأة قيادة المقاومة.

وفي المقابل أثبت عملية طوفان الأقصى وما بعدها من صمود مذهل قدرة الفرد المؤمن بعقيدته وقضيته على تحدي خصم شرس يمتلك أحدث القدرات العسكرية والتقنية، وتركيعه على ركبتيه.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً