غواصة إسرائيلية قبالة سواحل تل أبيب / صورة: Reuters Archive (Reuters Archive)
تابعنا

"من المنظور التاريخي اليهودي والإسرائيلي، فإن الانطباع السائد هو أن الأشياء السيئة تأتي من البحر الأبيض المتوسط"، بهذه الجملة بدأ الكاتب الإسرائيلي عميكام نحماني فصلاً دوَّنه في كتاب جماعي منشور عام 2019، تطرق خلاله إلى العزوف الإسرائيلي عن البحر.

وأوضح نحماني أنه في عام 1919 أصدر مئير ديزنغوف، أول عمدة لتل أبيب، قراراً بمنع سكان المدينة، التي تأسست قبل عشر سنوات فقط، من السباحة في البحر، وظل هذا القرار سارياً حتى عام 1928، الذي شهد تدشين أول شاطئ يتيح للسكان النزول إلى مياه البحر المتوسط.

هذا العزوف عن البحر امتد إلى فلسفة العمران وبناء المدن الإسرائيلية، إذ صُممت شوارع تل أبيب بشكل موازٍ للساحل، وهو ما يخالف التصميم العمودي المعتاد للشوارع باتجاه البحر المتوسط في المدن المطلة عليه، بحيث يكون البحر جزءاً من نسيج المدينة، بينما في تل أبيب تشكل سلسلة الفنادق الشاهقة على طول الشريط الساحلي حاجزاً بين المدينة والبحر.

أما مدينة حيفا ففُصلت عن ساحل البحر بواسطة مناطق صناعية وخطوط للسكك الحديدية، وهو ما جعل عامي شينار، المهندس المعماري الإسرائيلي، يخلص إلى أن المدن الإسرائيلية المطلة على البحر المتوسط، باستثناء تل أبيب نسبيّاً، تهرب من البحر، ولا تشبه نظيراتها في إيطاليا واليونان ومصر.

إن النظرة السلبية للبحر انعكست على عزوف الإسرائيليين عن العمل في الملاحة، فإحصائيات دائرة السفن وسلطات المرافئ في وزارة المواصلات الإسرائيلية تشير إلى عمل 100 شخص فقط في مجال الملاحة، حسب ما نشر المحلل العسكري يوسي ميلمان في صحيفة هآرتس في ديسمبر/كانون الأول 2023.

وقد تجلّى التأثير الاستراتيجي الأبرز لكراهية البحر في المؤسسة العسكرية لعقود، رغم أن إسرائيل تعتمد على البحر في 99% من حركتها التجارية، وتسيطر على ساحل يمتد بطول 196 كيلومتراً على البحر الأبيض المتوسط، و14 كيلومتراً أخرى على ساحل البحر الأحمر، كما يعيش 70% من سكانها في شريط بعمق 15 كيلومتراً من ساحل البحر المتوسط يضم المدن الأكثر كثافة، مثل تل أبيب ويافا وحيفا، وهي عوامل يُفترض أن تدفع إسرائيل لتصبح قوة بحرية.

لكن حسب شموئيل تانكوس في كتابه الذي طبعته وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 2003 بعنوان "من نهر اليركون إلى البحرية الإسرائيلية"، كان سلاح البحرية تاريخيّاً هو الفرع الأقل أهمية في الجيش الإسرائيلي، حتى إن رئيس هيئة الأركان في نهاية خمسينيات القرن العشرين قال لمرؤوسيه البحريين إن فرعهم لا يمثل أولوية لدى قيادة الجيش. كذلك لم تقاتل البحرية الإسرائيلية بعيداً عن حدود دولة الاحتلال منذ تأسيسها عام 1948 حتى حرب عام 1967.

مُنيت البحرية الإسرائيلية بنكسات تمثلت في غرق المدمرة "إيلات" أمام السواحل المصرية على يد زوارق صواريخ أصغر حجماً عام 1967، كما فشلت في حماية حفَّار البترول " كنتينج"، الذي أغرقته القوات الخاصة المصرية في ساحل العاج عام 1970 خلال رحلة نقله إلى إسرائيل.

وفي أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أغلقت البحرية المصرية مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، ولم تتمكن تل أبيب من فعل شيء لفك الحصار البحري عن ميناء إيلات.

إن أحد الدروس المستفادة من تجربة حرب 1973، بالتوازي مع القلق من شروع العراق في بناء مفاعل نووي في نهاية سبعينيات القرن العشرين، دفعا إسرائيل إلى تطوير قوتها البحرية عبر التخطيط في عام 1979 لشراء ثماني سفن من طراز "ساعر 5"، التي يبلغ وزنها 1300 طن، وتملك قدرات على الإبحار الطويل، وشراء ست غواصات دولفين من ألمانيا، وهي غواصات تتيح حمل رؤوس حربية نووية، مما يزود إسرائيل بقدرة على توجيه ضربة ثانية في حال حصول بغداد أو أي من خصوم تل أبيب على قدرات نووية عسكرية.

لكن حسب زئيف ألموج، قائد البحرية الإسرائيلية السابق، في دراسته المنشورة بعنوان "القوة البحرية الإسرائيلية: عامل أساسي في ساحة المعركة العملياتية"، فقد دخلت تلك السفن والغواصات الخدمة بعد سنين طويلة، إذ وصلت أول سفينة "ساعر 5" عام 1994 بدلاً من عام 1986 المقرر في المخطط التشغيلي، كما وصلت أول غواصة طراز "دولفين" في عام 1999.

لقد هدفت تل أبيب من عقد تلك الصفقة إلى امتلاك منصات بحرية يمكنها حمل كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة تتيح مهاجمة أهداف الخصوم البحرية والبرية، وتدمير سفنهم وغواصاتهم التي قد تهاجم المواني الإسرائيلية، وتقديم المساندة للقوات البرية في عملياتها، ودعم عمليات الإنزال البحري، ومحاصرة أساطيل مصر وسوريا في موانيهما حال حدوث حرب في المستقبل، بما يتيح حرية شحن البضائع من وإلى إسرائيل دون تهديد.

التحول في المفاهيم

انشغل المنظِّرون الاستراتيجيون الإسرائيليون بقضية محدودية العمق الاستراتيجي لدولة الاحتلال، وبالأخص عقب الانسحاب من سيناء، ثم من جنوب لبنان عام 2000، وصولاً إلى الانسحاب من قطاع غزة عام 2005.

وأشار القيادي العسكري، إسرائيل طال، في كتابه "الأمن القومي: القليل ضد الكثير"، إلى إمكانية أن يمثل البحر عمقاً استراتيجيّاً لإسرائيل حال امتلاك قوة بحرية تستغل مساحاته وأعماقه، داعياً إلى تغيير النظرة للبحرية الإسرائيلية، بحيث تتحول من كونها فرعاً مساعداً لتصبح فرعاً للردع الاستراتيجي عبر امتلاك قوة بحرية صغيرة نسبيّاً من حيث الحجم لتجنب التكاليف الضخمة التي تتطلبها عمليات شراء وتشغيل السفن الكبيرة وحاملات الطائرات، لكن مع امتلاكها قوة نوعية من حيث التأثير.

تزامنت الفكرة التي طرحها إسرائيل طال مع اكتشاف إسرائيل الغاز في البحر المتوسط للمرة الأولى عام 1999، وصولاً إلى اكتشاف حقل تامار عام 2009 بسعة 283 مليار متر مكعب، وليفياثان عام 2010 بسعة 535 مليار متر مكعب، ثم حقل كاريش بالقرب من لبنان، وحقول أخرى، مما أتاح لإسرائيل التحول من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة، وبالتالي برزت الحاجة إلى تأمين منصات استخراج الغاز في البحر المتوسط، وخصوصاً مع تهديد "حزب الله" اللبناني باستهدافها بواسطة الطائرات المسيَّرة والصواريخ الدقيقة.

كذلك توسعت إسرائيل في بناء محطات لتحلية مياه البحر، وهو ما غطى نحو 50% من استهلاك مياه الشرب، مما جعل حماية تلك المحطات ضمن أولويات الجيش الإسرائيلي، الذي سارع لشراء أربع سفن حربية من ألمانيا سعة 2200 طن، بهدف حماية منصات الغاز ومحطات تحلية المياه.

عقب حصار قطاع غزة، تصاعدت جهود إسرائيل البحرية لمنع تهريب الأسلحة إلى القطاع عبر البحر، وهو الأسلوب الذي سبق استخدامه حتى قبل سيطرة حركة حماس على القطاع، إذ ضبطت البحرية الإسرائيلية عام 2002 السفينة "كارين" خلال نقلها أسلحة من لبنان إلى السلطة الفلسطينية في أثناء انتفاضة الأقصى، ولمنع الصيادين في غزة من توسيع نطاق صيدهم في البحر للتضييق على السكان، وصولاً إلى منع السفن الأجنبية التي حاولت كسر الحصار على غزة، كما حدث في الاعتداء على سفينة "مافي مرمرة" التركية، واستشهاد 10 من ركابها عام 2010.

وقد انعكس تزايد الاهتمام الإسرائيلي بالبحر على ترقية ضباط البحرية لمناصب أمنية وعسكرية رفيعة على غير المعتاد، فعلى سبيل المثال، تولى عامي أيالون قائد سلاح البحرية رئاسة جهاز الأمن العام "الشاباك" منذ عام 1996 إلى عام 2000، فيما ينتمي وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي غالانت إلى سلاح البحرية، إذ قاد وحدة القوات الخاصة البحرية "شيطت 13" قبل أن ينتقل لاحقاً إلى القوات البرية.

التحدي الحوثي

إن إغلاق مصر -في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر- ميناء إيلات إثر وقفها الملاحة في وجه السفن الإسرائيلية بمضايق تيران، دفع إلى إعلان تل أبيب الحرب على مصر، وهي الحرب التي لا تزال المنطقة تعيش تداعياتها حتى الآن وفي مقدمتها احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية والجولان.

لقد كرّر التاريخ نفسه مؤخراً، لكن بشكل مختلف هذه المرة، إذ أدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية أو الأجنبية المتجهة نحو إسرائيل، إلى تعطيل حركة الشحن في ميناء إيلات بنسبة تصل إلى 85% على الأقل، بينما تقف البحرية الإسرائيلية عاجزة عن التصدي للحوثيين في ظل شنهم للهجمات انطلاقاً من السواحل اليمنية بواسطة صواريخ باليستية وطائرات مُسيَّرة.

لجأت تل أبيب إلى واشنطن ولندن طلباً للتدخل، فدشنت الولايات المتحدة عملية "حارس الازدهار"، ثم شنت رفقة بريطانيا موجات من الغارات الجوية والضربات الصاروخية في اليمن، وهو ما صعّد من التوتر في البحر الأحمر لدرجة غير مسبوقة، ودون النجاح حتى الآن في كبح هجمات الحوثيين.

لقد انكشف عجز البحرية الإسرائيلية عن مواجهة التهديد الحوثي، وافتقادها القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية بحرية طويلة من حيث التوقيت وعلى مسافة بعيدة من حيث الجغرافيا.

وقد يدفع ذلك المخططين الاستراتيجيين الإسرائيليين -باعتباره أحد الدروس المستفادة من المعركة الحالية- إلى كيفية تطوير القدرات البحرية الإسرائيلية، بما يؤمّن حركة الملاحة في البحر الأحمر، دون الاكتفاء بالتعويل على الحماية الأمريكية، سواء عبر إقامة قواعد بحرية في شرق إفريقيا أو تشكيل قوة بحرية قادرة على العمل في المياه العميقة، وعلى بُعد يصل إلى 2000 كيلومتر من القواعد البحرية الإسرائيلية، وهو ما سيتطلب تخصيص موارد مالية باهظة، لكنه أصبح أمراً مُلحاً على ضوء الانكشاف الإسرائيلي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً