تابعنا
تصاعدت تدريجياً المشاعر المعادية لفرنسا في منطقة الساحل، ففي عام 2015 اندلعت أعمال شغب في النيجر، كما تكررت مظاهرات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر احتجاجاً على الوجود الفرنسي.

برزت منطقة الساحل محورَ اهتمام للسياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية لنحو عقد من الزمان قبل الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، ثم تَراجَع الاهتمام بها بعد أن هز الزلزال الجيوسياسي الناجم عن حرب أوكرانيا القارة الأوروبية.

وتوجهت الأنظار مجدداً إلى النيجر التي شهدت في 26 يوليو/تموز 2023 انقلاباً عسكرياً نفّذه الحرس الرئاسي، وُضع على أثره الرئيس محمد بازوم رهن الإقامة الجبرية، في خطوة دعمها الجيش لاحقاً بذريعة تجنب سفك الدماء، وسرعان ما حظي الانقلاب بإدانة أوروبية بالأخص من باريس.

تشمل منطقة الساحل في تعريفها الواسع حزام سافانا إفريقياً ضخماً يمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، وهو حاجز طبيعي بين الصحراء القاحلة في الشمال والأراضي الأكثر خصوبة في الجنوب، وهي موطن لعديد من المجموعات العرقية، وتتسم بأنها ذات أغلبية مسلمة، فيما تصل نسبة المسلمين في النيجر إلى 99% من السكان.

يُدرِج التعريف الأضيق نطاقاً لمنطقة الساحل ستَّ دول ضمن حدودها، كما في "دليل جامعة أكسفورد لمنطقة الساحل"، هي: النيجر وموريتانيا والسنغال ومالي وتشاد وبوركينا فاسو، وقد تعرضت المنطقة للاستعمار الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعندما أصبحت فرنسا غير قادرة على تحمل عبء حكم المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية انسحبت منها، ونالت دول المنطقة -بما فيها النيجر- استقلالها في عام 1960.

أزمة دولة ما بعد الاستعمار

منذ لحظة الاستقلال واجهت بلدان المنطقة تحديات مشتركة، من قبيل كيفية حكم مناطق واسعة ذات موارد قليلة وبنية تحتية محدودة، وكيفية دمج الاختلافات العرقية في كيان واحد، وجاءت الاستجابة في شكل تركيز السلطة ومركزيتها في دولة موحدة.

ولكن أدت حدود الدولة المرسومة بشكل مصطنع، وفرض حكام موالين للغرب، وإنشاء اقتصادات تصدير للمواد الخام، إلى إعاقة إنشاء دولة يعدها المواطنون شرعية. وشهدت بلدان الساحل -باستثناء السنغال- أنظمة حكم الحزب الواحد ضمن ديكتاتوريات عسكرية حكمت لمدة ثلاثين عاماً.

ودخلت المنطقة في أوائل تسعينيات القرن العشرين مع نهاية الحرب الباردة ما تسمى فترة التحول الديمقراطي، وأصبحت الانتخابات تمثل النظام الشكلي لتداول السلطة، لكنّ النتائج في معظم الحالات كانت موضع خلاف وسط اتهامات بالتزوير.

توجد نظرية منتشرة على نطاق واسع مفادها أن الدولة الإفريقية الحالية لا تزال دولة "أجنبية" أو "مستوردة" على النمط الغربي، فيما يرى آخرون أن الفجوة بين الدول المعاصرة في منطقة الساحل ومجتمعاتها تُعزى إلى استيلاء النخب السياسية المحلية عليها وفشلها في تقديم الخدمات العامة.

لقد أدت السياقات السياسية الهشة والانقسامات الاجتماعية والمشكلات الاقتصادية العميقة إلى إثارة أزمات مؤسسية حادة، مما مهَّد الطريق أمام النخب العسكرية للاستيلاء على السلطة بحجة استعادة الأمن والاستقرار، والنتيجة الطبيعية لهذا الوضع هو التكرار النسبي للانقلابات خلال حقبة ما بعد الاستعمار.

الدور الفرنسي

تمتعت فرنسا بوجود عسكري في إفريقيا خلال الفترة الاستعمارية بين عامي 1880 و1960، ولاحقأً حافظت باريس على نظام أمني إقليمي في إفريقيا الناطقة بالفرنسية يُشار إليه باسم قواعد "باكس غاليكا"، وهو نظام قام على دعم فرنسا للأنظمة الحاكمة بعد الاستعمار مقابل الولاء لها، وقد برز مصطلح "إفريقيا الفرنسية" (Françafrique) لوصف المصالح الشخصية والاقتصادية والسياسية الوثيقة التي ربطت فرنسا بقادة مستعمراتها السابقة، ضمن علاقة يسودها الفساد.

يرى كثير من المنظرين الفرنسيين أن التدخل في إفريقيا يبرر وضع بلادهم بصفتها قوة عالمية تحظى بمقعد في مجلس الأمن، كما يرون أن الحدود الجنوبية لمحيط فرنسا الاستراتيجي تبدأ من منطقة الساحل، ولذا شعروا بالخطر مع انتشار الاضطرابات التي اجتاحت المنطقة في أعقاب الربيع العربي، وبالأخص إثر سقوط نظام معمر القذافي، الذي انعكس على الوضع الأمني في شمال مالي. فأعلنت باريس أنها لن تنتظر تهديد إنشاء دولة "ساحلستان" التي يمكنها أن تنفّذ هجمات ضد المصالح الفرنسية في المنطقة أو داخل فرنسا نفسها.

أطلقت فرنسا عملية "سيرفال" العسكرية في مالي بحلول يناير/كانون الثاني 2013 لمساعدة الحكومة على استعادة السيطرة على شمال البلاد، لكن أدت الحملة الفرنسية إلى انتشار الجماعات المسلحة في مناطق أخرى، وبالأخص في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهو ما دفع باريس إلى توسيع عملية "سيرفال" ضمن عملية جديدة باسم "برخان" امتدت إلى النيجر وتشاد وموريتانيا وبوركينا فاسو.

وفي عام 2014 تأسست مجموعة "دول الساحل الخمس" بدعم من فرنسا، لتركز اهتمامها على ضبط أمن الحدود وتنفيذ عمليات مشتركة ضد التنظيمات المسلحة التي تمركزت في المنطقة.

حاولت فرنسا دفع الدول الأوروبية إلى المشاركة عسكرياً في منطقة الساحل لأهميتها في الحدّ من تدفقات الهجرة غير النظامية من إفريقيا، ولمواجهة الجماعات المسلحة ذات الخلفية الإسلامية، فضلاً عن حاجة أوروبا إلى مواجهة النفوذ الإقليمي المتصاعد لروسيا والصين في إفريقيا.

وبالفعل انخرطت عشر دول أوروبية عام 2021 بقوات عسكرية محدودة ضمن فرقة العمل "تاكوبا" لتقديم المساعدة والمشورة للجيش المالي، ونظراً لهامشية منطقة الساحل لدى أغلب الدول الأوروبية، فقد تعزز الشعور في بروكسل بأن فرنسا تريد من الاتحاد الأوروبي أن يدفع ثمن سياساتها تجاه إفريقيا، وبالتالي لم تندفع الدول الأوروبية بقوة في دعم العمليات الفرنسية في الساحل.

إن النهج ​​الذي قادته فرنسا من خلال النظر إلى منطقة الساحل عبر عدسة الأمن فقط، أضفى الشرعية على سياسات الحكومات التي ركزت على تعزيز قوتها بدلاً من حماية المواطنين وتلبية احتياجاتهم، كما ساهم في فتح الباب على مصراعيه أمام مستوى من العنف العرقي لم يسبق له مثيل في المنطقة، فيما استخدمت القوات الحكومية تكتيكات قائمة على الإكراه والاعتقالات الجماعية التعسفية والإعدام خارج نطاق القضاء، وهو ما عزز الاستياء بين السكان المحليين.

كذلك ساهم رفض فرنسا خيار التفاوض مع الجماعات المسلحة، في انتشار الحديث عن رغبة باريس في إدامة حالة الحرب والحفاظ عليها لتبرير السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية على دول الساحل ومواردها.

انقلاب مالي وتساقط قطع الدومينو

تصاعدت تدريجياً المشاعر المعادية لفرنسا في منطقة الساحل، ففي عام 2015 اندلعت أعمال شغب في النيجر بعد أن شارك الرئيس آنذاك محمد يوسفو، في مَسيرة تضامن في باريس حداداً على ضحايا الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو الساخرة، كما تكررت مظاهرات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر احتجاجاً على الوجود الفرنسي.

شهدت مالي انقلاباً عسكرياً عام 2020، تلاه انقلاب آخر في العام التالي شكَّل نقطة تحوُّل في التوازنات الإقليمية، فقد طالب حكام مالي العسكريون فرنسا بإنهاء عمليتها العسكرية "برخان" في بلادهم، كما طالبوا برحيل بعثة الأمم المتحدة "مينوسما"، وبالفعل قرر مجلس الأمن إنهاء ولاية البعثة في منتصف عام 2023، كما استعان حكام مالي بقوات "فاغنر" الروسية في مواجهة الجماعات المسلحة، وهو ما دفع باريس إلى سحب قواتها بشكل كامل في أغسطس/آب 2022.

وعقب ذلك انسحبت القوات الأوروبية المشاركة في العملية "تاكوبا"، ونقلت باريس قواتها العسكرية من مالي إلى النيجر التي أصبحت الركيزة الأساسية للوجود الفرنسي في غرب إفريقيا بحجم يبلغ 1500 جندي فرنسي.

لقد كان الانقلاب العسكري في مالي أول حلقة في سلسلة تساقط أحجار الدومينو في منطقة الساحل، وأعقبه حدوث انقلاب في النيجر، ليمثل ضربة غير متوقعة للنفوذ الفرنسي، وبالأخص مع إلغاء المجلس العسكري الحاكم في النيجر اتفاق التعاون الأمني ​​مع فرنسا، واتخاذه قراراً بوقف تصدير اليورانيوم إلى فرنسا، وسحب الحصانة الدبلوماسية من السفير الفرنسي سيلفان إيتيه، وأمره بمغادرة البلاد.

لقد أعلن الرئيس ماكرون رفضه إعادة انتشار قواته في النيجر إلا بطلب من الرئيس المعزول بازوم، كما رفض سحب السفير الفرنسي بحجة عدم اعتراف بالسلطة الانقلابية وما يصدر عنها من قرارات، كما رفضت الاستجابة لطلب النيجر سحب القوات الفرنسية، لكن سرعان ما تبينت هشاشة الأرض التي تقف عليها باريس، فأعلن ماكرون في سبتمبر/أيلول 2023 سحب السفير الفرنسي من النيجر، وإنهاء الوجود العسكري الفرنسي في النيجر نهاية العام نفسه، فيما سارع المجلس العسكري الحاكم في النيجر إلى عقد اتفاقية تعاون دفاعي مع روسيا.

لم يعد متبقياً لباريس سوى وجودها العسكري في تشاد، التي زار رئيسها محمد إدريس ديبي، موسكو في يناير/كانون الثاني الماضي، وهي زيارة تتزامن مع وجود عناصر من الفيلق الروسي وريث شركة "فاغنر" في ثلاث دول مجاورة لتشاد، هي: ليبيا وإفريقيا الوسطى والسودان.

لقد بدأت الأصوات المطالبة بمغادرة الجيش الفرنسي لتشاد أسوةً بدول الجوار، تتصاعد، في مؤشرٍ على احتمال فقدان فرنسا آخر قلاع نفوذها في منطقة الساحل والصحراء، مما سيُضعف موقفها الجيوسياسي في الساحة العالمية، ويُفقدها الوصف الذي وصفت به نفسها في وثيقتها للأمن القومي الصادرة عام 2022 بأنها مزوّد أمن موثوق به، كما يبدد هدفها الاستراتيجي أن تصبح في عام 2030 قوة توازن على الساحة الدولية، لتعود إلى حجمها الحقيقي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً