تابعنا
صباح السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، استيقظ الطفل عبد الله أبو الخير (14 عاماً) في منزله بمنطقة "التوام" شمالي قطاع غزة على أصوات قصف الاحتلال الإسرائيلي، وكان من المفترض أن يذهب الطفل إلى المدرسة في ذلك اليوم، لكن والدته لم ترسله خوفاً على حياته.

في اليوم التالي، نزح عبد الله مع عائلته من منطقتهم إلى مدرسة "أبو عاصي" في مخيم الشاطئ شمالي القطاع بسبب القصف الذي بدأ تزامناً مع تعزيزات عسكرية دفع بها جيش الاحتلال إلى الحدود مع غزة.

جاء قصف الاحتلال رداً على عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة فجر يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفي اليوم التالي أعلن مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي "حالة الحرب".

يقول الطفل عبد الله لـTRT عربي: "بقينا في المدرسة أقل من أسبوع، ثم قصفها الاحتلال بالقنابل واضطررنا إلى النزوح مجدداً، وأتى خالي ليأخذنا، كنت مع أمي وأبي، عند وصولنا إلى نتساريم وسط القطاع استهدفوا سيارتنا واستُشهد أبي وأمي وخالي، وكنتُ الناجي الوحيد".

بالنسبة لسكان القطاع، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، كان يوم "السابع من أكتوبر" يحمل مشاعر مختلفة، فهم اعتادوا السجن الكبير الممتد على مساحة 365 كم مربع، لكن مشاهد خرق المقاومة السياج الفاصل بين غزة وغلافها والتسلسل إلى المستوطنات بعث لهم أملاً بالتحرر من الاحتلال الذي حاصرهم لأكثر من 17 عاماً.

لكن، سرعان ما تحولت تلك المشاعر إلى خوف وترقب للأسوأ، فقد حشد الاحتلال قواته، وحاصر القطاع أكثر وقطع عن السكان جميع سبل الحياة من ماء وطعام، وبدأت آلياته الثقيلة وطيرانه وصواريخه استهداف مناطق المدنيين بحجة القضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس، ولمدة عام حتى الآن سيطرت جملة "مجازر بحق المدنيين" على الأخبار.

وبعد عام من الإبادة المستمرة، يجد الفلسطينيون أنفسهم في دوامة النزوح المتكرر والفقر وافتقار إلى مقومات الحياة الأساسية، ففي كل منزل ومن كل عائلة صار شهيد واحد على الأقل، بينما مُسحت عائلات بأكلمها وقُصفت خيام النازحين في الأماكن التي ادعى الاحتلال أنها آمنة، وانتشرت المجاعة والأمراض وصارت لكل غزيّ قصة يرويها تختصر عاماً من الإبادة التي تتواصل على قطاع غزة الذي تحول مع الهجمات الجوية والمدفعية إلى أكوام من الركام ومنطقة وصفتها تصريحات أممية بأنها "منكوبة وغير صالحة للعيش".

تعرض TRT عربي في هذا التقرير قصصاً لفلسطينيين في قطاع غزة يروون جانباً من حياتهم وكيف غيّرتها الحرب التي أثرت في جميع مفاصل حياتهم، وأدت إلى استشهاد 41 ألفاً و825 وإصابة 96 ألفاً و910 فلسطينيين.

الناجي الوحيد

نجا الطفل عبد الله من القذيفة التي استهدفت سيارة عائلته، لكن جسده امتلأ بآثار الشظايا في وجهه وبطنه وساقه ويده التي لم تلتئم بعد، ويقول ومِن ورائه آثار دمار المنازل: "أعيش مع جدتي الآن بعد استشهاد أمي وأبي، لا يوجد أحد يسندني ولا حنان مثل حنانهم".

ويعرب عن أمانيه في استكمال علاجه بالخارج وإجراء عمليات التجميل لإخفاء ندبات الشظايات، كما تطرق عبد الله، النازح الآن في خان يونس، إلى الصعوبات المادية التي يواجهها مع جدته وصعوبة تأمين مصروفه والطعام والشراب.

وعن هذا يضيف: "لا أحد يعيلني الآن، وأضطر إلى بيع الأشياء البسيطة مثل الشراب (العصير) أو القهوة والشاي والجبنة كي أحصل على بعض النقود"، وطالب الطفل المنظمات الدولية التكفل به في المصروف فضلاً عن تسفيره إلى خارج غزة لعلاجه.

يضطر الطفل عبد الله إلى بيع الأشياء البسيطة مثل الشراب (العصير) أو القهوة والشاي والجبنة كي يعيل نفسه (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)
نجا الطفل عبد الله من القذيفة التي استهدفت سيارة عائلته، لكن جسده امتلأ بآثار الشظايا في وجهه وبطنه وساقه ويده التي لم تلتئم بعد (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)

وحسب تقرير مشترك لمنظمة "أوكسفام" ومنظمة العمل ضد العنف المسلح (AOAV) في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، فإن عدد الشهداء المدنيين في غزة على مدار العام الماضي تجاوز أي صراع آخر في العقدين الماضيين.

وقال التقرير إن الاحتلال قتل أكثر من 6 آلاف امرأة و11 ألف طفل خلال العمليات العسكرية، في حين فقد أكثر من 25 ألف طفل أحد والديهم أو أصبحوا أيتاماً، ويعاني كثيرون أيضاً من إصابات وإعاقات تغير حياتهم.

"تفرقنا منذ أول أسبوع بالحرب"

في أول شهر من الحرب قسّم الاحتلال قطاع غزة إلى منطقتي الشمال والجنوب، وعمد إلى عزل الشمال عن باقي القطاع، مما أدى إلى تشتيت شمل العائلات بسبب إصداره أوامر إلى سكان الشمال بالإخلاء والتوجّه جنوباً، وأنشأ طريقاً عسكرياً يفصل مدينة غزة وشمالها عن الوسط والجنوب، ونصب حواجز عسكرية في ما يُعرف بـ"محور نتساريم".

هلا الرضيع (18 عاماً) من سكان بيت لاهيا شمالي قطاع غزة والموجودة الآن في مدينة خان يونس، فرّق الاحتلال بينها وبين عائلتها منذ الأسبوع الأول للحرب.

"شعور صعب جدا بأننا تفرقنا في الأسبوع الأول من الحرب، أنا وأخويَّ الصغيران نزحنا إلى منطقة النصيرات في الجنوب وأهلي جميعهم بقوا في الشمال، حيث قصف الاحتلال المنزل على رؤوسنا دون تحذير، مما أدى إلى إصابة جميع أفراد عائلتي"، وفق ما قالت هلا لـTRT عربي.

استُشهد والد هلا في شهر مايو/أيار الماضي "حتى ما ودعناه ولا شفناه"، مضيفةً أن والدتها سافرت إلى الخارج للعلاج دون وداع أيضاً، "الآن نحن في الجنوب، ولا يوجد معنا أحد من أهلنا، لا أم ولا أب، شعور صعب جداً"، وفق تعبيرها.

وفي خيمتها تشكو هلا شعور الفقد والحاجة: "لا أحد يساعدنا، ووصل بنا الحال إلى أن نشحذ الماء والأكل من الناس.. أنا فقط 18 سنة ومسؤولة عن إخوتي الصغار".

تنساب الدموع من عيني الشابة وهي تقول تلك الكلمات لعجزها عن تلبية احتياجات إخوتها من الطعام، وتختتم بقولها: "الحرب صعبة علينا وتشتتنا جميعاً".

في خيمتها تشكو هلا شعور الفقد والحاجة: "لا أحد يساعدنا، ووصل بنا الحال إلى أن نشحذ الماء والأكل من الناس.. أنا فقط 18 سنة ومسؤولة عن إخوتي الصغار" (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)

وفي أبريل/نيسان الماضي، قال تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، إن الأطفال في غزة "يموتون بسبب مضاعفات مرتبطة بالتجويع منذ أن بدأت إسرائيل استخدام التجويع سلاح حرب".

وأشار التقرير إلى أنه حتى قبل الحرب، كان نحو 1.2 مليون من سكان غزة، البالغ عددهم آنذاك 2.2 مليون نسمة، يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، وكان أكثر من 80% منهم يعتمدون على المساعدات الإنسانية.

وتمارس إسرائيل السيطرة الشاملة على غزة، بما يشمل حركة الأشخاص والبضائع، والمياه الإقليمية، والمجال الجوي، والبنية التحتية التي يعتمد عليها القطاع، وسجل السكان. ويجعل ذلك سكان غزة، الذين أخضعتهم إسرائيل لإغلاق غير قانوني لأكثر من 16 عاماً، يعتمدون بشكل شبه كامل على إسرائيل للحصول على الوقود، والكهرباء، والدواء، والغذاء، والسلع الأساسية الأخرى، حسب "هيومن رايتس ووتش".

نساء يواجهن مصاعب الحمل دون مقومات

رهام العاجز (28 عاماً) من سكان رفح، حامل في الشهر التاسع، تحدثت إلى TRT عربي حول مخاطر الولادة في الخيمة وآثار نقص المستلزمات الطبية ومواد التنظيف، فضلاً عن نقص الطعام المناسب لها، بوصفها امرأة حامل، ولأطفالها.

تقول رهام: "نفتقد كثيراً من الأشياء، أولها الأمان والنوم والراحة دون الاستيقاظ على المجازر والمعاناة، همنا اليومي الآن صار كيف سنجلب الماء وماذا سأطعم أولادي وماذا سنأكل لو لم نلحق التكية (مكان توزيع الطعام على النازحين)".

وحسب وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فإن أكثر من 150 ألف امرأة حامل يواجهن ظروفاً رهيبة ومخاطر صحية، وسط الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

وكانت مديرة الاتصالات في "أونروا" جولييت توما، قالت إن "عديداً من النساء لا يأكلن ولا يشربن ما يكفي، ليس فقط لأنه لا يوجد ما يكفي من الطعام، ولكن للحد من الوقت الذي يتعين عليهن قضاؤه في استخدام مرافق المراحيض القذرة وغير الصحية".

ورهام واحدة من النساء اللواتي يواجهن ظروفاً مأساوية للولادة، وعن هذا تقول: "أقلق كثيراً عندما أفكر في موعد ولادتي لأنه لا توجد بيئة نظيفة للولادة ولا تصلح لرعاية رضيع، وحتى الأسعار مرتفعة جداً ولا أستطيع توفير حفاضات الأطفال".

رهام واحدة من النساء اللواتي يواجهن ظروفاً مأساوية للولادة، وعن هذا تقول: "أقلق كثيراً عندما أفكر في موعد ولادتي لأنه لا توجد بيئة نظيفة للولادة ولا تصلح لرعاية رضيع" (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)

وتتساءل بحزن: "هل سنكون نازحين إلى مكان ثانٍ عندما ألد طفلي؟ وماذا سأفعل كي أعتني به؟ هل سنكون على قيد الحياة أم ميتين؟"، وتتابع: "صرنا أربعا وعشرين ساعة نفكر أنه ممكن اليوم ننام هنا ونصحو لنذهب إلى مكان آخر.. كتير مشتتين".

ويواجه عديد من العائلات الغزية أزمة معيشية خانقة نتيجة ارتفاع أسعار المتطلبات الأساسية بشكلٍ جنوني، فقد شهدت أسعار المواد الغذائية والملابس ومواد التنظيف ارتفاعاً ضخماً منذ بداية الحرب لم يسبق له مثيل، في حين تواجه النساء الحوامل نقصاً في الرعاية الطبية اللازمة في ظل توقف غالبية المراكز الطبية عن استقبالهن، بسبب خروجها من الخدمة.

طلاب دون مدارس

"هدفي إكمال دراستي وألا أضيّع مستقبلي، وأن أثبت للاحتلال أننا، شعب فلسطين، ضد الجهل، وأن يكون دائماً سلاحي التعليم والدراسة والقراءة والكتابة".

في خيمة متواضعة اتُّخذت مركزاً مؤقتاً للتعليم في خان يونس جنوب قطاع غزة، تقول الطالبة جنى عبد الجواد (12 عاماً) هذه الكلمات ومن ورائها يجلس بعض الأطفال أمامهم معلمة تكتب دروساً على سبورة.

تشرح الطفلة بعزيمة عالية بأن الخيمة لا تحوي أبسط الإمكانيات من مقاعد وكراسيّ، بل فقط "دفتر وقلم"، وتقول: "ندرس في خيمة.. لا مقاعد ولا شيء بسبب تدمير مدارسنا أو تحولها إلى مراكز إيواء، لا يتوفر في الخيمة إلا دفتر وقلم وهما الأساس في التعليم".

اتخذ الأطفال في غزة الخيام مراكزاً للتعليم بعد أن أدت غارات جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تدمير 93% من المباني المدرسية (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)
في خيمة متواضعة اتُّخذت مركزاً مؤقتاً للتعليم في خان يونس جنوب قطاع غزة، تقول الطالبة جنى إن حلمها إكمال دراستها وتعليمها (TRT عربي/سامي برهوم) (TRT Arabi)

وأدت غارات جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال عام على القطاع إلى تدمير 93% من المباني المدرسية، وفق المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.

ولم يكن حلم جنى بسيطاً، فقد خسرت حياتها سابقاً وزملاءها في الدراسة وفقدت معلمتها، كل هذا أثر فيها وفي نفسيتها لكن حلمها يُلهمها بالتحدي والصمود.

"منزلي تهدّم وعائلتي نصفها استُشهد وأثرت فيَّ كثيراً هذه الظروف، حلمي بسيط، وهو أن تعود حياتي كما كانت وأن أعود إلى منزلي"، حسب ما تقوله لـTRT عربي.

وقبل بدء المجازر الإسرائيلية، كان العام الدراسي بقطاع غزة يسير بشكل طبيعي، فقد كانت المدارس، سواء الحكومية أو التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، مجهزة وتستوعب الطلاب بشكل مناسب.

ووفق إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي، فقد قتل الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 750 من المعلمين والمعلمات والعاملين في القطاع التعليمي في غزة، بالإضافة إلى قتل 115 من العلماء والباحثين والمفكرين في مجال التعليم الجامعي.

وفي تصريحات لوكالة الأناضول، أكد الثوابتة أن الاحتلال قتل أكثر من 11500 طالب وطالبة في جميع المراحل الدراسية، ومنع نحو 800 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بالعام الدراسي الجديد للعام الثاني على التوالي.

وبدعم أمريكي، تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إبادة جماعية في غزة خلفت آلاف القتلى والجرحى الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وأعداد مماثلة من المفقودين، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة.

وللعام الثاني، تواصل إسرائيل المجازر، متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بوقفها فوراً، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية ولتحسين الوضع الإنساني الكارثي في غزة.

شارك في التقرير مراسل TRT عربي في قطاع غزة، سامي برهوم

TRT عربي