وبات أولئك الشباب موظفين بهيئة الكفاءة الحكومية المعروفة اختصاراً بـ"DOGE"، التي أُسِّست بأمر تنفيذي من ترمب في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، ويرأسها رجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك الذي أصبحت خلافاته مع الهيئات البيروقراطية الأمريكية محلاً للجدل العام في واشنطن خلال الأسابيع الماضية.
وفي نهاية الشهر الماضي أرسل مكتب إدارة شؤون الموظفين في الولايات المتحدة أكثر من مليوني رسالة إلكترونية إلى موظفي الحكومة الأمريكية، مخيّراً إياهم بين الاستقالة من مناصبهم مقابل الحصول على تعويض "كريم وعادل" من خلال برنامج الاستقالة الطوعية المؤجلة، أو البقاء في العمل وفق شروط معقدة.
وبحسب المكتب الأمريكي، يبدأ تنفيذ هذا البرنامج اعتباراً من 28 يناير/كانون الثاني الماضي، وهو متاح لجميع الموظفين الفيدراليين حتى إشعار آخر.
وفي حال استقال الموظف الأمريكي "فسيحتفظ بكامل راتبه ومزاياه بغضّ النظر عن عبء عمله اليومي، كما سيُعفى من جميع متطلبات العمل الحضوري حتى 30 سبتمبر/أيلول 2025".
في المقابل، إذا قرر الموظف الأمريكي البقاء في وظيفته فسيكون عليه مواجهة مجموعة من القرارات الإدارية ومعايير الأداء التي يجب عليه التزامها، بالإضافة إلى الاستعداد لإمكانية إلغاء بعض الوكالات وإدماج أخرى، والعمل وفقاً لشروط جديدة كما ورد في الرسالة الإلكترونية المرسلة.
لم يتأخر ماسك وفريقه كثيراً، إذ كانت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أولى ضحاياهم. وقد سبق أن وصف رجال الأعمال العاملين فيها بأنهم "ماركسيون ومجرمون"، مما أدى إلى تعليق تمويل برامجها وتجميد عمل الجزء الأكبر من موظفيها، وسط حديث عن إمكانية إلحاقها بوزارة الخارجية.
موظفو وادي السيليكون في واشنطن
بموجب الأمر التنفيذي الصادر عن الرئيس الأمريكي ترمب في 20 يناير/كانون الثاني، أُنشئت هيئة الكفاءة الحكومية لتنفيذ أجندة الإدارة الأمريكية في تحديث التكنولوجيا لتعظيم كفاءة وإنتاجية الحكومة. وتحدث ترمب لأول مرة عن هذه الهيئة الجديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عندما تعهد بإنشاء إدارة جديدة للحد من الإنفاق الفيدرالي المهدَر، مستفيداً من خبرات رجلي الأعمال إيلون ماسك وفيفيك راماسوامي، الذي انسحب لاحقاً من المشهد.
ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، بلغ العجز الفيدرالي لعام 2024 ما يقرب من 1.8 تريليون دولار. وقدّر مكتب المحاسبة الحكومية في تقرير أن الحكومة قدمت 236 مليار دولار في مدفوعات غير لائقة -ثلاثة أرباعها كانت مدفوعات زائدة- عبر 71 برنامجاً فيدرالياً خلال السنة المالية 2023.
ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، عُيّن ماسك الذي يرأس شركات X وSpaceX وTesla والذي تبرع للحملة الانتخابية لترمب بأكثر من 250 مليون دولار، موظفاً حكومياً خاصاً، وهو وضع مؤقت يسمح له بالعمل في البيت الأبيض لمدة 130 يوماً دون الحاجة إلى تقديم نماذج الإفصاح المالي المطلوبة من الموظفين الحكوميين العاديين.
انتقد خمسة وزراء خزانة أمريكيون سابقون الهيئة الجديدة والعاملين فيها، في مقال مشترك نشرته صحيفة نيويورك تايمز، مشيرين إلى أن هؤلاء الفاعلين السياسيين لم يخضعوا لنفس القواعد الأخلاقية الصارمة التي يخضع لها الموظفون المدنيون. وأضافوا أن أحدهم احتفظ بدوره في شركة خاصة، مما خلق، في أفضل الأحوال، مظهراً من مظاهر تضارب المصالح المالية.
كما اتهم الوزراء السابقون الموظفين الجدد بأنهم يفتقرون إلى التدريب والخبرة في التعامل مع البيانات الشخصية الحساسة -مثل أرقام الضمان الاجتماعي ومعلومات الحسابات المصرفية- وأن سلطتهم تعرض نظام المدفوعات الأمريكي والبيانات شديدة الحساسية داخله لخطر الانكشاف، ربما لخصوم الولايات المتحدة.
تجربة تويتر
يسعى إيلون ماسك إلى نقل تجربته في تويتر إلى الحكومة الفيدرالية الأمريكية، مستنداً إلى نهجه السابق، حين سرّح ما يقرب من 80% من العاملين في الشركة بالتزامن مع خفض التكاليف العامة. وكما حدث عندما استحوذ على تويتر ونقل أسرته إلى مبنى الشركة، نقل ماسك وفريقه أسرّتهم إلى مقر مكتب شؤون الموظفين الفيدرالي، الذي يقع على بعد بضعة مبانٍ من البيت الأبيض، وفقاً لمصدر مطلع تحدث إلى صحيفة نيويورك تايمز. وقد هدف ماسك إلى تمكين فريقه، الذي يعمل حتى وقت متأخر من الليل، من النوم هناك، مكرراً تكتيكاً استخدمه سابقاً في تويتر وتسلا.
توظف الحكومة الأمريكية نحو 2.3 مليون موظف مدني، بحسب مكتب شؤون الموظفين في البيت الأبيض. ووفقاً لمؤسسة الشراكة من أجل الخدمة العامة -وهي منظمة غير ربحية- ظل حجم القوى العاملة ثابتاً عند نحو 0.6% من سكان الولايات المتحدة منذ عام 2010. وهذا أقل مما كان عليه في العقود الماضية، إذ كان عدد العاملين الفيدراليين يعادل 1% من السكان في الستينيات، وأكثر من 2% في الأربعينيات.
ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، يهدف ماسك وفريقه إلى إدخال أدوات الذكاء الصناعي في أنظمة الحكومة، واستخدامها لتقييم العقود والتوصية بالتخفيضات. ونقلت الصحيفة عن ثلاثة أشخاص مطلعين على عمل فريق ماسك أن توماس شيد، المهندس السابق في شركة تسلا، الذي اختير لقيادة فريق التكنولوجيا في إدارة الخدمات العامة، قال لبعض الموظفين إنه يأمل في وضع جميع العقود الفيدرالية في نظام مركزي حتى يمكن تحليلها بواسطة الذكاء الصناعي.
من جانبه قال راسل تي فوغت، الذي خدم في الإدارة الأولى لترمب واختير مرة أخرى لقيادة مكتب الإدارة والميزانية، بصراحة عن خطط فريق ترمب لتفكيك الخدمة المدنية: "نريد أن يشعر البيروقراطيون بألم التغيير. عندما يستيقظون في الصباح، نريدهم ألا يرغبوا في الذهاب إلى العمل، لأنهم يُنظر إليهم بشكل متزايد على أنهم الأشرار".
انتقدت مجلة الإيكونوميست إمكانية نقل تجربة تويتر إلى الحكومة الأمريكية، ووصفتها بأنها تبدو كـ"الوحش"، مقارنة بحجم شركة تويتر وعدد موظفيها. وقال وزير الخزانة السابق لورانس سامرز، يوم الثلاثاء، في مقابلة مع برنامج وول ستريت ويك على قناة بلومبيرغ التليفزيونية: "إذا استُخدم هذا النفوذ لإصلاح أنظمة الحكومة، التي ليست على أحدث طراز كما هي الحال في القطاع الخاص، فقد يكون هذا تطوراً مرحباً به. أما إذا استُخدم لانتهاك القانون المتعلق بقدرة الكونغرس على تخصيص الأموال، أو لاستهداف مستفيدين معينين، فسيكون ذلك إشكالياً للغاية".
تضارب المصالح
ومن أهم التخوفات التي يثيرها منتقدو توغل إيلون ماسك في الإدارة الأمريكية قضية تضارب المصالح ما بين أجندته التجارية والمصلحة العامة. فماسك، الذي يدير ست شركات، حصل على عقود حكومية بقيمة 13 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، مع احتمال توسيع العقود العسكرية مع سلاح الجو الأمريكي، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.
وقبل أن يتولى منصبه الحالي بصفته مراقباً ومقيماً للحكومة الأمريكية مرت علاقة ماسك بالجهات التنظيمية بتوتر واضح، وسبق أن وصف لجنة الأوراق المالية والبورصات بأنها "مجموعة من الأوغاد"، فيما رفعت سبيس إكس دعوى ضد مجلس علاقات العمل الوطني بدعوى عدم دستوريته.
واستناداً إلى تحقيق أجرته الصحفية أشار إلى أن 11 وكالة فيدرالية لديها أكثر من 32 تحقيقاً أو دعوى قضائية ضد شركات ماسك، من بينها غرامات فرضتها إدارة الطيران الفيدرالية على سبيس إكس، ودعوى من لجنة الأوراق المالية والبورصات تطالب ماسك بدفع 150 مليون دولار بسبب انتهاكه لقوانين الأوراق المالية. كما أن مجلس علاقات العمل الوطني لديه 24 تحقيقاً ضد شركات ماسك، إلا أن ترمب أقال ثلاثة من كبار مسؤوليه، مما وقف البت في القضايا.
كذلك وُقف عمل مكتب حماية المستهلك المالي الذي تلقى مئات الشكاوى ضد تسلا، مما أدى إلى تعطيل تحقيقاته، ونظراً إلى أن هذا المكتب كان من المفترض أن يشرف على خدمة المدفوعات الجديدة التي يخطط ماسك لإطلاقها عبر إكس.
أعضاء الكونغرس الديمقراطيون وخبراء الأخلاقيات يشيرون إلى أن ماسك لم يسبق له مثيل في تاريخ أمريكا، إذ يجمع بين إدارة شركات لديها قضايا تنظيمية ضخمة وبين نفوذ سياسي كبير. السيناتور ريتشارد بلومنتال وصف ذلك بأنه "تضارب صارخ في المصالح" قد ينتهك القانون الفيدرالي.
في المقابل، دافع ترمب عن ماسك قائلاً إنه "لا يستفيد بأي شيء" من منصبه الحكومي، فيما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض إن ماسك سيبتعد عن أي قرارات تتعلق بشركاته عند حدوث تضارب مصالح.
في ما يتعلق بالجهات التنظيمية، فإن لجنة الأوراق المالية والبورصات تواجه ضغوطاً داخلية قد تؤدي إلى تسوية مخففة لقضية ماسك، فيما التغييرات في لجنة الانتخابات الفيدرالية قد تعطل التحقيقات في شكاوى ضده، ومنها اتهامات بتقديم مكافآت مالية للناخبين.
على صعيد العمالة، فإن التغييرات في مجلس علاقات العمل الوطني ولجنة تكافؤ فرص العمل قد تعرقل قضايا العمال ضد شركات ماسك، بما في ذلك شكاوى حول تسريح موظفي إكس وانتهاكات في تسلا تتعلق بالتمييز العنصري.
أخيراً، أقال ترمب 17 مفتشاً عامَّاً، مما قد يؤثر في التحقيقات بشأن نيورالينك، التي كانت تواجه اتهامات بإساءة معاملة الحيوانات. كما أن الإطاحة برئيس مكتب الأخلاقيات الحكومي قد تؤثر في التحقيقات المتعلقة بتضارب المصالح في منصب ماسك.