كان الدبلوماسيون الأمريكيون إلى ما قبل ولاية الرئيس دونالد ترمب لا يزورون القدس الشرقية برفقة نشطاء وسياسيين إسرائيليين، وكانوا لا يزورون الأنفاق في سلوان تحت الأقصى، إلا سرّاً ودون علم الجهات الرسمية الإسرائيلية.
هذا ليس تحليلي وإنما هي قراءة سياسية للواقع الجديد الذي أوردته صحيفة هآرتس العبرية في عددها الصادر يوم الأحد 19 يونيو/حزيران للكاتب نير حسون، يقيّم فيها زيارة السفير الأمريكي في تل أبيب ومشاركته بافتتاح نفق "طريق الحجاج" الذي يصل من حي وادي حلوة في سلوان إلى أسفل المسجد الأقصى المبارك.
واضح جداً أن تغييراً جذرياً حصل على سياسة الولايات المتحدة تجاه القدس الشريف، وعموم القضية الفلسطينية خلال فترة رئاسة دونالد ترمب، وقد برز هذا جلياً بإعلان نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وإعلان أمريكا القدس عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة.
لكن مشاركة سفير الولايات المتحدة ديفيد فريدمان، ومبعوث البيت الأبيض الخاص إلى الشرق الأوسط جيسون جرينبلات في افتتاح النفق، ومشاهدة السفير وهو يضرب بالمطرقة الجدار لهدمه، كانت تمثل الحدث الأبرز والمقطع الأكثر دلالة على تغير السياسة الأمريكية.
ولم يحدث هذا سراً بل من خلال نقل وقائع الحدث عبر وسائل الإعلام، وبحضور رسمي متمثل بسارة نتنياهو زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي. حتى إن الباحث المختص في الهوية السياسية لمدينة القدس المحامي اليهود داني زيدمان قال معقباً على هذه المشاركة "إنها خطوة غير مسبوقة من قِبل الإدارة الأمريكية، لكنها لم تكن مفاجئة من خلال التماثل والتوافق بين إدارة ترمب ذات النزعة الإنجيلية الأصولية، وبين اليمين الإسرائيلي".
لا بد من الإشارة إلى أن أعمال حفر هذا النفق استمرت لسنوات وسط مزاعم أنه كان الطريق الذي يسلك منه الحجاج اليهود إلى الهيكل الأول لأداء الطقوس الدينية. ويزعم اليهود أيضاً زوراً وكذباً أن آثاره لا تزال قائمة تحت المسجد الأقصى، الذي يدّعون أنه بُني على أنقاض الهيكل الأول والثاني.
مع العلم وللتذكير أن المسجد الاقصى بُني في هذا المكان من لدن آدم عليه السلام، وذلك بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة كما ورد في الحديث الشريف.
وما قام به السفير الأمريكي فريدمان كان استعراضياً، حيث بناء وتشييد لجدار رمزي قام هو بهدمه وإعلان افتتاحه. أمّا النفق ذاك، فقد تم بناؤه قبل أشهر، وهو مصنوع من دعائم حديدية قوية جداً، وأن آثار أعمال الحفر ظهرت في تصدع وانهيار للعديد من البيوت في حيّ وادي حلوة.
حتى إن الآثار التدميرية والأضرار الخطيرة التي نجمت عن الحفر استفزت اثنين من كبار المختصين في علم الآثار وهما الدكتور يوحنان والدكتور جدعون أفني، واللذين أوردت صحيفة هآرتس موقفهما الرافض لأنه يتعارض حسب قولهما مع ذوقيات علم الآثار وأخلاقياته، والتي تقتضي أن لا يشكل هذا العمل أي أضرار وأذى، وما حصل كان العكس تماماً، إذ إن الأضرار جسيمة جداً على بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم.
لقد جاءت مشاركة السفير الأمريكي ومبعوث البيت الأبيض بعد أقل من أسبوع على انتهاء ورشة البحرين، وهي الجانب الاقتصادي لصفقة القرن، والتي أعد تفاصيلها ثلاثة من اليهود الأمريكيين وهم فريدمان وجرينبلات وكوشنر صهر ترمب.
إن الزعم بأن صفقة القرن هي خطة خلاقة ومنصفة لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط كما زعم ترمب محض افتراء. فما إن عاد السفير الأمريكي إلى القدس وقد أصبحت مقراً لسفارة بلاده بدل تل أبيب حتى شارك في افتتاح النفق تحت المسجد الأقصى. وهذا إن حمل مدلولاً فإنه يدل على الصفعة والإهانة التي توجهها الإدارة الأمريكية إلى كل تلك الكائنات البشرية من وفود الدول العربية التي شاركت في مؤتمر البحرين، وفي مقدمتهم السعودية والإمارات.
ولا أظنها الصدفة أبداً أن يكون يوم الأحد 19 يونيو/حزيران هو اليوم الذي شارك فيه السفير الأمريكي في افتتاح النفق هو نفس اليوم الذي يشارك فيه وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس في زيارة للإمارات، تلك الزيارة التي لم يعلن عنها إلا بعد عودته يوم الإثنين الأول من يوليو/تموز عبر نشر صور له داخل مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي.
فأي إهانة وأي ازدراء أن يلتقط له صوراً هناك، بينما يلتقط السفير الأمريكي في تل أبيب وزوجة نتنياهو صوراً لهما بينما يهدمان أساسات المسجد الأقصى المبارك وجدرانه.
فهل أصبح مسجد زايد أكثر قداسة وأهمية عند حكام الإمارات والسعودية من المسجد الأقصى كما قال الإعلامي السعودي فهد الشمري، والذي شوهد في نفس الأيام وهو يقول إن المسجد الأقصى ليس هذا المسجد، وإنما هو معبد لليهود. وإن الصلاة في مسجد في أوجندا أكثر بركة من الصلاة في المسجد الأقصى؛ في تعارض صارخ وتكذيب لآيات القرآن وأحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ليست هذه المرة الأولى التي يعلَن فيها عن أنفاق تحت المسجد الأقصى، فلقد كانت أعمال الحفر تتم بسرية تامة منذ احتلال القدس عام 1967 والتي بدأها وزير الحرب يومها موشي ديان.
لكن المرة الأولى التي يعلن فيها رسمياً عن افتتاح نفق تحت المسجد الأقصى كانت في سبتمبر/أيلول 2019. وكان ذلك خلال فترة رئاسة نتنياهو الأولى للحكومة الإسرائيلية، والتي أعقبها انتفاضة شعبية سميت بانتفاضة النفق، ارتقى فيها 117 شهيداً فلسطينياً وقتل 17 جندياً إسرائيلياً.
وها هو نتنياهو يمارس السلوك نفسه حتى إنه قبل عام قام بعقد الاجتماع الوزاري الأسبوعي لحكومته في أحد الأنفاق تحت الأقصى، في إشارة واضحة إلى سياسته في استمرار مشاريع تهويد ما تحت الأرض سعياً للإعلان يوماً ما أن ما فوق الأرض هو كذلك لليهود، وأن فيه سيقام الهيكل، وليس فقط ما تحت الأرض.
إن تواطؤ حكام السعودية والإمارات والبحرين ومصر وصمتهم عما يجري في محيط الأقصى ليؤكد على ما قاله كوشنر من أن الخطوط العريضة لصفقة القرن عُرضت على ابن سلمان وابن زايد والسيسي، وأنهم وافقوا عليها.
إننا نذكرهم أن القدس الشريفة هي أخت مكة والمدينة المنورة، وأن المسجد الأقصى هو شقيق المسجد الحرام والمسجد النبوي. وإنهم إذا كانوا لا يستطيعون أن يحظوا بشرف تحرير المسجد الأقصى، فعلى الأقل أن لا يتآمروا عليه ولا يفرطوا فيه حتى يأتي اليوم الذي يهيئ الله له من يحرره كما حظي بهذا الشرف يوماً الفاتح صلاح الدين الأيوبي.
سيظل المسجد الأقصى هو القبلة الأولى ومسرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمسجد الثالث الذي لا تشد الرحال إلا إليه. إن المسجد الأقصى حق خالص للمسلمين، ما تحته وما فوقه حتى السماء السابعة، ولا يقبل القسمة ولا المشاركة وليس لليهود حق ولو في ذرة تراب واحدة فيه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.