حملة #أنا_أيضاً #MeToo الحقوقية انتشرت كالنار في الهشيم عام 2017، عندما صرّحت بعض النّساء أن منتج الأفلام الشّهير هارفي وينشتاين كان قد تحرّش بهنّ في سنوات سابقة، وتبع ذلك عشرات الشّكاوى عنه، وعن غيره من الرّجال من عالم الفن.أسابيع قليلة مضت قبل أن تصبح هذه الحملة عالميّة، ويمتدّ الوسم #MeToo ليصل إلى غالبية شعوب العالم بالرغم من التفاوت الذي بدا لدى هذه الشعوب في التجاوب معها.
مع انتشارها العالمي، انتظرتُ بلهفة لأرى كيف ستكون ردود الفعل عليها في مجتمعاتنا العربيّة، فرغم حساسية موضوعات التحرش والاغتصاب، فإنّ أفكارنا ونظراتنا لهذه الأمور ومعالجتها تحسّنت إلى حد ما في الآونة الأخيرة. ولكن مع الأسف مازالت المجتمعات العربية بعيدة كل البعد عن الانخراط في حملة كحملة #MeToo بالطريقة التي تضمن إنصاف المرأة العربية.
إن مشوار معالجة التحرش في الوطن العربي طويلة وشاقة، ولكنها تبدأ من فكرة بسيطة هي أن جسد المرأة ليس من حق كل عابر طريق.
لنبدأ ربّما بالأمور البسيطة والتي تتعلق بالتربية أو التنشئة التي نربي عليها فتياتنا. فلكي تتجاوز فتياتنا العقبات التي تتعلق بالتحرش؛ لا بد أن نعكس المقاربات القديمة ونحاول تعزيز الجرأة لديهن في الإفصاح عما يحدث معهنَّ من تحرش، وتعزيز مفهوم الشرف والذي لا يتعلق بنوع اللباس ومدى توافقه مع معايير الاحتشام، وبالتالي فإن اللباس لا يعتبر"فيزا" للمتحرشين ولا يصح اتخاذه ذريعة. إن إحداث تغيير في هذه المفاهيم من شأنه أن يعدَّ أحد أهم المفاتيح لتعزيز حقوق المرأة العربية المفقودة.
هناك العديد من المخاوف تنتاب أي امرأة عربية تريد الإفصاح علناً عن الاضطهاد الذي تعرضت له. فالبيئة التي نشأت فيها تخبرها أنّ الصّمت، هو علاج التّحرش. ولكن هذا الصّمت هو القاتل الأول لأيّ أمل تملكه الضّحية لاسترداد حقوقها واعتبارها الشخصي. إن الصمت أحد أهم الأسباب المعوِّقة لتقدم حملة #MeToo في الوطن العربي، التي يحلو للبعض وصفها "بالأجندات النسائية".
فحسب إحصائيات الأمم المتحدة، فإن 37% من النساء العربيات يتعرضن للتحرش البعيد "من غرباء" أو القريب "من أحد أفراد الأسرة". كما أن 6 نساء من بين 10 يرفضن تقديم أي شكوى أو حتى تبليغ أحد أفراد العائلة. حسب مقياس المجتمع العربي بعاداته وتقاليده، فإن تأثير الشكوى يساعد المرأة مساعدة لحظيّة، ولكنه يدمّر مستقبلها تماماً.
الكثير من الشواهد والقضايا التي مرّت بمشاهير عرب وفنّانين، أعادت الخوف إلى قلوب النّساء من التحدث عن الموضوع، لأن من شأن الحديث عن هذا الموضوع أن يدمر سمعة المرأة وأسرتها كاملة، في حين أن البوح بالتحرش في الغرب من شأنه أن يدمر سمعة المتحرش ومستقبله. قضية الفنان سعد المجرد خير دليل على ذلك، فالبرغم من أنه تعرض لعدة شكاوى تحرش واغتصاب خلال الأعوام الماضية، فإنه كان يُقابَل بدعم من فنانين عرب مشاهير رغم عدم صدور البراءة في حقه بعد. بل تعرضت الضحية والمشتكية لتهديدات وصلت حد "الاغتصاب" في حال استمرار دعوتها ضد المجرّد. وتم إلصاق أبشع التهم والصفات بها، وهي الصّورة النمطية التي تقول إنّ الفتاة التي تشتكي شاباً غنياً ومشهوراً هي حتماً تسعى وراء الشهرة والمال.
في قضية الشاب مامي من الجزائر، اضطرت الضحية للجوء إلى محاكم فرنسا لنيل حقها، فهي لم تثق بتاتاً أن محكمة عربية ستعدل في حكمها، ولم تكن مرتاحة بتاتاً لعرض تفاصيل التحرش والاغتصاب الذي تعرضت له على مسمع الإعلام العربي الذي سينهش لحمها وسمعتها قبل التّطرق حتى إلى سبب سرد هذه التّفاصيل.
فشلُ هذه القضايا في الدول العربيّة، والتهم المسبقة للفتاة بأنها المذنبة، مثّلت "الأمل المفقود" لمئات الآلاف من النساء اللواتي يتعرضن للتحرش باستمرار.
ولكنّ النظام القضائي ليس وحده الملام حتماً، فأنا أرى عامل "المرأة الذكورية" هو المُلام الأكبر؛ فالنساء الذكوريات، وهو مصطلح يصف المرأة التي تقف عادة في صف الرجل ضد المرأة، يعاملن "التحرش" على أنّه ردة فعل، وليس على أنّه خلل ثقافي متجذر في المجتمع العربي وأحد نتائج النّظرة الدونية للمرأة وجسدها، والأهم، لحقوقها.
كيف تنقذ امرأة نفسها، إن كانت أقدر النّاس على فهمها، تقف في وجهها؟ رغم أنّني على مستوىً شخصي أسعى بطرق مختلفة لإظهار أنّ تعبير "المرأة عدوّ المرأة" غير دقيق من خلال إبراز نماذج نسائية رائعة، إلا أنّ الجملة أصرّت على إثبات صحتها في مواقف عديدة.
حسب مقياس المجتمع العربي بعاداته وتقاليده، فإن تأثير الشكوى يساعد المرأة مساعدة لحظيّة، ولكنه يدمّر مستقبلها تماماً.
إنّ المنتقد الأول للمرأة سواء في طريقة لباسها أو كلامها أو عملها أو تربيتها، هي المرأة، قبل أن يكون أيّ رجل. يُقال "السياسة الخارجية تتغير عندما تتغير السياسة الداخلية"، وهذا ما ينقص العائلات العربية، تغيير نظام التربية الداخلي في المنازل والذي يعطي تصريحاً للحكم على الفتاة والتحكم بها وربط سعادتها بإرضاء من حولها. وهذا غالباً نتيجة تربية الأم لابنتها، ضمن قالب اجتماعيّ محدد.
التّربية على أنّ الزواج "يكمّلها" يشعرها بالنّقص دائماً في حال لم تربط اسمها باسم رجل. وأن نظرات الرجال هي انعكاس لما ترتديه المرأة. وأن غضب الزّوج هو نتيجة عدم تعامل الزوجة "ملكة البيت" بحكمة وذكاء لمعالجة الأزمة. طبعاً لا ننسى استغلال الدّين: فعلى سبيل المثال للرجل حق تقويم المرأة بالضّرب.
هذه التصريحات الخفية التي تتردد على مسامعنا باستمرار بهدف "النصيحة" من قبل النساء من حولنا، تعطي بشكل مباشر نظرة دونيّة للمرأة، وتصريحاً للمتحرّش بأنّ الهدف من وجود المرأة، هو إرضاء الرجل وإسعاده، وإشباع رغباته، أي تبضيع المرأة بمعنى جعلها مجرد سلعة وبضاعة.
قد يرى البعض أن هذا الكلام مجرد "كلاشيه"، ولكنّ نتائجه خطيرة: فلم يكتف المجتمع بزرع "فضيلة" الصمت في المرأة، بل حاول أن يقنعها بأنها هي الملامة على فعل التحرش. ففي حادثة شخصية مرت بها صديقتي، رفضت دخول المركز الأمني لتقديم الشكوى من شدة خجلها مما حصل، سألني مدير المركز الأمني/الرّقيب "شو كانت لابسة؟"، حيث تم وضعها في إطار المتهمة قبل أن يسأل الرّقيب عن الشاب المتحرش أي سؤال. تخيلوا، نعيش في مجتمع، قد يخبرك في لحظة ما: الرجل ضحية لباسك!
أن توثقي قصة تحرشك بفيديو وتنشرينه وأنت لا ترتدين حجاباً مثلاً، هو تصريح تلقائي للمجتمع بأن يصفك بالمنحلّة وأنّك تستحقين ما حصل معك، وأنّك لم ترحمي الرجال بلباسك، فالتحرش رد طبيعي.
لم يكتف المجتمع بزرع "فضيلة " الصمت في المرأة، بل حاول أن يقنعها بأنها هي الملامة على فعل التحرش
إن ضرر التّحرش لا يقف عند اللّمسات أو الكلمات أو حتّى لحظات التعرض للانتهاك، بل تفوَّق ليصبح أحياناً قرار قبولها بالتحرش من عدمه قراراً مصيريّاً يؤثر على مهنتها ومستقبلها كاملاً. كالممثلة التي تم اغتصابها ومن ثمّ عُرض عليها دور "البطولة" في أحد الأفلام في حال امتنعت عن تقديم شكوى. وأخرى كان يجبرها مخرج أن تخرج معه للعشاء أو تناول الطعام بعد أيام التّصوير، في سبيل الإبقاء عليها في الفيلم.
إن مشوار معالجة التحرش في الوطن العربي طويلة وشاقة، ولكنها تبدأ من فكرة بسيطة هي أن جسد المرأة ليس من حق كل عابر طريق.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.