أينما وليت وجهك، فثمة "يافطة" تعلن عن فك السحر وجلب السعد وعلاج كل الأمراض، أينما ارتحلت وأبحرت عبر الواقعي أو الافتراضي، فثمة ما يدعوك لاغتيال العقل وتجريب مسارات الخرافة. فأمام انسداد الآفاق، وعُسر الفهم، ومحدودية الإمكان، ينسحب العقل، ويرتفع منسوب الأَسْطَرَةِ والبحث عن الحل السحري، خارج المنظومات الاعتيادية والواقعية.
لقد لجأ الإنسان البدائي إلى الساحر، أملاً في الفهم وفك رموز العالم، لجأ مضطراً إلى التعويذات والطقوس الوقائية، لأنه كان يهاب الطبيعة، ويخاف المرض ولا يستطيع تشفير ما يقع من حوله، كان راغباً في البقاء لا غير. فالممارسة السحرية عموماً تعبّر عن حاجة موضوعية استوجبها الانتماء إلى صياغات ثقافية وطبيعية تتأسس على الصراع والخوف من المجهول، فالسحر كما يقول إدموند دوتي "ابْتُكِرَ تحت ضغط الحاجة، إنه ليس سوى إخراج موضوعي للرغبة في شكل قوة كبرى وفريدة، إنه تقنية قبل أن يكون علماً" وممارسة وقائية وتحصينية بالدرجة الأولى.
لقد لجأ الإنسان البدائي إلى الساحر، أملاً في الفهم وفك رموز العالم، لجأ مضطراً إلى التعويذات والطقوس الوقائية، لأنه كان يهاب الطبيعة، ويخاف المرض ولا يستطيع تشفير ما يقع من حوله، كان راغباً في البقاء لا غير.
إذا كان مفهوماً لجوء الإنسان البدائي إلى هذه الممارسات لمواجهة العين الشريرة والقوى اللا مرئية، فكيف نفسر استمرارية هذه الممارسات في زمننا العربي الراهن؟ وكيف نبرّر “رعايتها” الرسمية من طرف الأنظمة العربية؟ فالسكوت عن ممارساتها وعدم تجريمها وتحجيم حضورها، يعبّر عن كونها مرعية من طرف النظام، ومباركة من طرفه، وإلا كيف يُفهم هذا الشيوع المتواصل للشعوذات المعاصرة، التي تغلَّف أحياناً بتسميات الرقية الشرعية والحجامة والتداوي بالأعشاب والطب الروحاني وعلم الفلك، وما إلى ذلك من “علامات” متبارية في سوق التداول الاجتماعي؟
إن الصياغات التي يقترحها العقل ممثَّلاَ في الطب، لا يمكن أن تستوفي الواقع كلياّ، ولا يمكنها أن تجيب عن مختلف إشكالاته، ولهذا يجري البحث باستمرار عن آليات وتعبيرات لإعادة بَنْيَنَةِ العلاقات الاجتماعية. فثمة ممارسات سحرية يأخذ بها الأفراد لتأمين أساسيات الحضور وتحصينه، وهي ممارسات تستدعي العلنية (القلادات مثلاً)، مثلما تتطلب السرية (التمائم مثلاً)، ومنها ما يستوجب الاستعانة بـ“الفقهاء” والأضرحة والحمامات.
إن النجاح الذي يحققه الأفراد في الوطن العربي، لا يبرَّر بالكفاءة أو التميز من طرف الكثيرين، ولكنه يفسر بأنه نتيجة مباشرة لتعرفهم على “فقيه محنك“، صنع لهم “القبول” ويَسَّرَ لهم أسباب النجاح، بل إن الإخفاق والمرض الذي يصيب المرء يُفسر أيضاً من طرفهم، بأنه عائد إلى عين شريرة أو ممارسة سحرية أو كونه إيذاءً مسلطاً من عالم الجان.
ليس غريباً أن نجد حدوة الحصان في باب المسكن المخملي، وأن نجد الخاتم السليماني في يد الوزير الفلاني، وأن نشاهد “الحروز” و“التمائم” مخفية بإحكام في مكاتب كبار المسؤولين، فالمُعْتَقِدُ في فاعلية “الخرافي” يتمثل نفسه “محسوداً” و“متبوعاً” من قبل الآخرين. فـ“العين” تتهدده باستمرار، كما أن المنافسين، من الممكن أن يستهدفوه ببعض الممارسات السحرية كـ“الديار” و“العمل” و“التباطيل“. وهذا ما يدفعه إلى إنفاق أموال طائلة في سبيل الحصول على نُتف من “مخ الضبع“، لوضعها في خاتم أو في حافظة نقدية، بدعوى أنها تمنح حاملها النفوذ والهيبة والتأثير.
إن النجاح الذي يحققه الأفراد في الوطن العربي، لا يبرَّر بالكفاءة أو التميز من طرف الكثيرين، ولكنه يفسر بأنه نتيجة مباشرة لتعرفهم على “فقيه محنك“، صنع لهم “القبول” ويسَّر لهم أسباب النجاح.
في ذات السياق يتوجب تحصين الجسد باستمرار، وعدم التفريط في بقاياه (قلامة أظافر، شعر…)، ولا في إفرازاته (مني، عرق…)، ولا في ملابسه الداخلية على وجه التحديد (تبان، صدرية…)، فالممارسات السحرية، تقوم في ملمح منها، على الاعتقاد بأن جزءاً من الجسد أو شيئاً يكون مجاوراً أو محتكاً به، يمكن أن يأخذ مكان الجسد، وأنه إذا ما مورست عليه بعض الأفعال، يتعرض الجسد الذي تنتمي إليه، إلى ما تعرضت له بالطريقة نفسها.
إنه مجتمع فائق التعقيد والتركيب، فيه يتجاور العلم واللا علم، والعقلاني والخرافي، والمقدس والمدنس، وما إلى ذلك من الثنائيات التي تنتمي إلى سجلات متناقضة. ففي عز الثورة الصناعية الرابعة وانتشار ثمرات الذكاء الصناعي، تتواصل في المجتمع العربي ذات الصياغات السحرية، ويرتفع الطلب الاجتماعي على السجل الخرافي، لتفسير المشكلات والمصاعب اليومية وحلها، وهو ما يجدد السؤال المؤرِّق بشأن مشروع الحداثة والعقلانية المتعثر.
تُفهم الحداثة، في معناها الأولي، كقطيعة وانفصال، بين زمنين، الأول ينتمي إلى التقليد، والثاني يعلن ميلاد الفرد والعلم والتقنية، فقد برزت كحركة انفصال مع الماضي، إلا أنها في الحالة العربية، وفي سيرورتها التاريخية، لم تستطع إلغاء التقليدي، بل عملت على إعادة إنتاجه، أو على الأقل نجحت في إقامة مساومات معه، فلا الخرافة انسحبت كلياً، ولا العقل استطاع أن يكون الفيصل في تدبير أزماتنا وإخفاقاتنا المجتمعية. فالعربي يجنح إلى تدبير الأزمة بدل حلها، بالارتهان إلى الخرافة والعلم في الآن ذاته، يلجأ إلى الطبيب ليصف له الدواء، ولا يتردد في عيادة الساحر ليحضر له “العمل“، إنها المزاوجة بين السحري والواقعي.
جدير بالذكر أن اغتيال العقلانية وتجذير الخرافة يفيد حتما في شرعنة الأوضاع القائمة، ويفيد أيضاً في تأكيد القوة والامتياز لصالح مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، بإعفائهم من المساءلة والمسؤولية، فكل ما يقع للمواطن العربي من بطالة وهدر تنموي وغياب تطبيب ورفاه اجتماعي، هو من سوء الطالع وانتفاء السعد، أو من توقيع الحاسد والمعيان والجان، ولا دخل لسوء التدبير السياسي فيه.
جدير بالذكر أن اغتيال العقلانية وتجذير الخرافة يفيد حتما في شرعنة الأوضاع القائمة، ويفيد أيضاً في تأكيد القوة والامتياز لصالح مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، بإعفائهم من المساءلة والمسؤولية.
لهذا تحظى النشاطات السحروية الخرافية بالرعاية الرسمية؟ لأنها، وبكل بساطة تعفي الدولة من مسؤوليتها تجاه المواطن، بل إن ذات النشاطات تملأ البياضات التي يخلفها غياب الدولة المؤسسي، على مستوى العمل والصحة والرعاية النفسية. فماذا لو أوصدت أبواب المشعوذين وبائعي الأوهام والخرافات؟ ماذا لو فسر المواطن العربي انكساراته، بغياب الحكومة الرشيدة وانتفاء العدالة والمواطنة الحقة؟ ماذا لو تأكد له أن “السحر الأسود” الذي يهابه هو الفساد الذي يمارسه الساسة من سارقي أحلامه ومُكسري آفاق انتظاره؟
سَيَعِي آنئذ، وبشكل جلي، أن خصمه الطبقي وعدوه الإستراتيجي هو الحاكم غير الرشيد، وليس بالضرورة تلك المنظومة الاعتقادية المفتوحة على السحر والعين والجان. لهذا كله، فإن الحرب على التفكير الخرافي، لن تدق طبولها على الأقل في المنظور القريب. فالخرافة متواطئة ضد العقل والعدل والتحرر، إنها تملأ البياض وتعفي من المساءلة والمطالبة، ولا حرج في أن تتواصل يافطاتها الإعلانية في ليلنا العربي الحالك.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.