تعود قضية الاعتداء الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة" في المياه الدولية قبالة شواطئ غزّة إلى الأحداث مجدداً، فقد طلب قضاة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية من المدعية العامة "فاتو بنسودا" إعادة النظر في قرارها السابق الذي رفضت فيه فتح تحقيق يلاحق الجريمة الإسرائيلية التي اقتُرِفَت في مايو/ أيار 2010، وأودت بحياة عشرة مدنيين من الأتراك والعديد من الجرحى من جملة المتضامنين الذين أقلّهم "أسطول الحرية" الذي أبحر صوب غزّة، ضمن جهود مواجهة الحصار المفروض عليها.
يرجع قرار الاستئناف إلى معركة قضائية مفتوحة، منذ العام 2013، حينما تقدّمت دولة جزر القمر، التي رفعت السفينة علمها، بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، مسنودة بدعاوى الضحايا، وطواقمهم القانونية ومنذ ذلك الوقت والمدعية العامة في المحكمة ترفض فتح تحقيق في الجريمة، وهو ما رآه قضاة الاستئناف تعنّتاً في استخدامها حقّها، واستنادها إلى افتراضات قانونية خاطئة تتذرّع بها لعدم ملاحقة "إسرائيل" قانونياً، وهو الأمر الذي عدّه الضحايا وممثّلوهم وأنصارهم تواطؤاً مع الجريمة الإسرائيلية، لاسيما أن رفض المدعية العامة قد تكرر طوال هذه المدّة من عمر القضيّة.
ثمّة ملاحظتان مهمّتان يكشف عنهما طول عمر القضية، الأولى الطبيعة السياسية للنظام القانوني الدولي، والذي يخضع بدوره إلى التوازنات السياسيّة، والتي يتجلّى منها في هذه القضية تحديداً الهيمنة الأمريكية والنفوذ الإسرائيلي، على الرغم من أن كلاً من الولايات المتحدة و"إسرائيل" لم تنضمّا إلى المحكمة الجنائية الدولية. ويحضر هنا تصريح مستشار البيت الأبيض للأمن القومي "جون بولتون" الذي كان قد هدّد في وقت سابق بتوقيف قضاة المحكمة الجنائية الدولية في حال حركوا قضايا ضدّ الولايات المتحدة أو "إسرائيل".
وإذا كانت المدعية العامّة، تتعرض لجملة انتقادات حول فشلها في عدد من الملفات والقضايا الأخرى، فإن أزمة قضية "مافي مرمرة" لا ترجع إلى الكفاءة القانونية للمدعية، أو إلى قصور في أدوات التحقيق لديها، أو إلى حيثيات فنية وتقنية وإجرائية في نظام المحكمة الجنائية الدولية، بقدر ما ترجع إلى موقف منحاز وشبه معلن من قِبل المدعية، التي تَرفض ابتداء فتح ملف تحقيق في الجريمة الإسرائيلية، وعلى نحو يخالفها فيه قانونيون أساسيون في المحكمة نفسها، بمعنى أنها تفرض حصانة استباقية على أيّة مساءلة لـ "إسرائيل" أو تحقيق في جرائمها، وهو الأمر الذي يكشف بدوره عن أدوات القوى النافذة في تسييس القضاء الدولي، وإعادة توظيفه بما يخدم أهدافها.
الملاحظة الثانية على الضدّ من ذلك، وهي من أسباب استمرار الصراع القضائي على هذه القضية خلال الفترة الطويلة كلّها، أي إصرار الضحايا ومسانديهم على ملاحقة "إسرائيل" من هذه البوابة، في دلالة على أهمية هذا النمط من العمل السياسي والقانوني والشعبي في مساندة الشعب الفلسطيني وملاحقة "إسرائيل"، في وقت تنسحب من هذه المسؤولية الدول والحكومات، التي يُفترض أنها تملك إمكانات أكبر من تلك الجهود الفردية والمؤسسية المحدودة.
أزمة قضية "مافي مرمرة" لا ترجع إلى الكفاءة القانونية للمدعية بقدر ما ترجع إلى موقف منحاز من المدعية التي تَرفض ابتداء فتح ملف تحقيق في الجريمة الإسرائيلية.
فحتّى السلطة الفلسطينية التي جعلت في صدارة أجندتها الانضمام إلى المؤسسات الدولية، والكفاح القانوني، تبدو بطيئة للغاية في تصعيد خطواتها في هذا الاتجاه، لاسيما وأنّها سبق وأحالت شكوى بخصوص الاستيطان للمحكمة الجنائية الدولية، واشتكت من تأخّر المدعية العامّة في دراسة الملف، ثم عادت للحديث مؤخرًا عن رفع كامل ملف الاستيطان للمحكمة الجنائية الدولية.
يتضح بالوقوف عند هاتين الملاحظتين، أهمّية الجانب القانوني في الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي والسعي لتكبيل آلته الحربية والاستعمارية باستثمار ما هو متاح من أدوات قانونية، ويؤكد أهمية هذا الصراع الاستنفار الأمريكي الحامي لـ "إسرائيل"، الذي لم يكتف باعتبار لجوء السلطة للمحكمة الجنائية خطاً أحمر، وإنما فرض عليها العديد من العقوبات، لهذا السبب تحديداً، كان منها إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، كما أنّ الولايات المتحدة سبق وألغت تأشيرة دخول المدعية العامة إلى الولايات المتحدة وأعلنت نيتها منع عدد من موظفي المحكمة الجنائية الدولية من دخول الولايات المتحدة حيث مقرّ الأمم المتحدة، وذلك في سياق "ردع" المحكمة عن ملاحقة الولايات المتحدة المحتملة على جرائم اقتُرِفَت في أفغانستان، وحماية حلفاء الولايات المتحدة وفي طليعتهم "إسرائيل".
يتّصل بذلك، ضرورة التأكيد على كون "إسرائيل" تستثمر الحماية الدولية، وعجز النظام الدولي عن ملاحقتها، في تكثيف إجراءاتها الاستعمارية، والتي تُعدّ الكثير من عناصرها مخالفة للقانون الدولي، ويمكن أن تندرج في إطار جرائم الحرب، وبالقدر الذي تستفيد فيه "إسرائيل" من المنظومة الدولية وبنيتها وقراراتها، فإنّها مستمرة في فرض الوقائع الاستعمارية وتكريسها على الأرض بنفسها، دون أن تركن إلى مجرد الحماية الدولية ونفوذها في العالم، وهو ما يستدعي من الفلسطينيين بالدرجة الأولى عملاً على الأرض في مواجهة الإجراءات الإسرائيلية، وعدم الاكتفاء بالخطوات ذات الطابع القانوني والدبلوماسي.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.