على الرغم من أن الزيارة اكتنفها عنصر المفاجأة إلى حد ما، إلا أنه يمكن النظر إليها كنتيجة طبيعية لخطوات تمهيدية خيمت على المشهد منذ مطلع العام الجاري، عبر تصريحات إماراتية بعثت برسائل إيجابية إلى تركيا، وقابلتها أنقرة بحسن نية معلنة عن رغبتها في رؤية خطوات عملية من الإمارات.
لقد أعربت الإمارات عقب المصالحة الخليجية مطلع العام الجاري، أنها ترغب في تطبيع العلاقات مع تركيا، حسب ما صرح آنذاك وزير الشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش، وبعد وقت قصير في أبريل/نيسان الماضي تبادل وزيرا خارجية البلدين التهاني بمناسبة حلول شهر رمضان، فضلاً عن الرسائل التركية التي اتسمت هي أيضاً بطابع إيجابي، لا سيما في إطار إعلان الرئيس التركي أردوغان عن مرحلة جديدة تبدؤها أنقرة في السياسة الخارجية.
ولذلك فإن هذه الزيارة أو أي خطوة مشابهة لها كانت من جملة التوقعات المعقولة لهذه المراحل التمهيدية التي سبقتها.
دوافع التقارب
أما حين الحديث عن دوافع التقارب، فيمكن بداية الاسترشاد بتصريح أنور قرقاش ذاته، حينما عبّر عن رغبة بلاده في تطبيع العلاقات مع تركيا، حيث قال: "لا يوجد لدينا أي سبب لكي نختلف مع تركيا، فلا توجد مشكلة". وهو تصريح يشير إلى واقع حقيقي يدل على أنه لا توجد في الأصل مشكلة بينية بشكل خالص، بل جل الخلافات تدور حول ملفات أخرى يبدو أن الإمارات دخلت فيها بطريقة أو بأخرى.
يكمن الخلاف بين أنقرة وأبو ظبي في الأصل في وجهات نظر متعاكسة نحو العديد من الملفات، ولقد برز ذلك بشكل قوي مع الربيع العربي 2011، ثم تطور بشكل أكبر مع الحصار الذي فرضته دول خليجية على قطر، ثمّ تضخم من خلال دعم حفتر في ليبيا، واليونان في شرق المتوسط، والموقف في قره باغ ضد أذربيجان وتركيا، فضلاً عن الآلة الإعلامية التي تتعمد تشويه صورة تركيا.
بالطبع هناك عوامل أهم من ذلك تكمن وراء هذه الخطوة الإماراتية، وهذه العوامل منها ما يتعلق بأنقرة، ومنها ما يتعلق بالإمارات بشكل يتسق مع طبيعة التغيرات الإقليمية التي فرضها فوز الرئيس الأمريكي جو بايدن وغلق صفحة الرئيس السابق دونالد ترمب المعروف بعلاقاته الوطيدة مع إدارة أبو ظبي.
العوامل التي تتعلق بأنقرة ترتبط برغبة أنقرة في طي صفحة الخلافات الماضية مع الدول الفاعلة في المنطقة والتحدث بشكل مباشر، كما عبر عن ذلك الرئيس أردوغان في لقاء مؤخراً علق فيه على استقباله لطحنون بن زايد. وبالتالي فمن الطبيعي أن ترحب أنقرة بأي خطوات عملية من قبل الإمارات تصل بالعلاقات إلى مستوى أفضل.
إلى جانب ذلك بما أن الزيارة ركزت على الجانب الاقتصادي بعد الآثار السلبية على دول العالم من تبعات فيروس كورونا، فمن المنطقي أن تهتم أنقرة بهذه الخطوة وترحب بها، وهذا تجلى في استقبال المبعوث الإماراتي من قبل الرئيس التركي مباشرة، وإشراك المسؤولين الأتراك المعنيين بهدف وضع خريطة للاستثمارات التي تريد الإمارات ضخها في تركيا.
كما أن المصالحة الخليجية مطلع العام الجاري زادت من فرص التقارب الإماراتي، حيث إن موقف أنقرة تجاه الحصار الذي فرض على قطر منتصف 2017 كان واضحاً، وعززته بخطوات عملية على الأرض وإرسال جنود أتراك وتأسيس قاعدة عسكرية هناك، وبالتالي فإن ذوبان جليد هذه الأزمة سينعكس بالإيجاب على تركيا وعلاقاتها بتلك الدول.
أما عن العوامل المتعلقة بالإمارات فهي إلى حد كبير مرتبطة بعدم نجاحها في العديد من مشاريعها السياسية التي تبنتها كطرف في مواجهة أنقرة في العديد من ملفات المنطقة، ولذا فهي ربما تبحث عن مخرج يجنبها مزيداً من التصادم غير المجدي.
لكن الأهم من ذلك بالنسبة للإمارات هو التغيرات التي دفعتها لتعديل المسار، ولعل رحيل ترمب وصهره كوشنر عن إدارة البيت الأبيض هو الأبرز في تلك التغيرات، إضافة لرحيل إدارة نتنياهو التي كانت عضد الإمارات في المنطقة، ولقد شكل رحيلها أزمة بالنسبة لأبو ظبي، وعلى الرغم من أن الإدارة الإسرائيلية الجديدة ليست أفضل من نتنياهو إلا أن طبيعة التحالف الذي كان يقوده الأخير مع الإمارات كان بوتيرة أشد ممَّا هو عليه الآن.
إلى جانب تلك المتغيرات، كانت الخطوات الإيجابية بين أنقرة والقاهرة على طريق حلحلة الخلافات بين البلدين، وكذلك الوضع بين أنقرة وأثينا يتجه نحو مسار إيجابي لمعالجة أزمة شرق المتوسط، وكل ذلك يدفع بالإمارات لإعادة حساباتها ويفرض عليها مخاوف من أن تبقى في عزلة.
مآلات التقارب
ممَّا تجدر الإشارة إليه أن الخطوة الإماراتية الأخيرة ركزت على الشق الاقتصادي من العلاقات بين البلدين، بما ينعكس بالإيجاب على أنقرة وأبو ظبي، دون الحديث عن ملفات سياسية شائكة بينهما أو وضع آلية للاتفاق على حلها، وهذا ينبع بالطبع من عدم وجود أزمات بينية شائكة بشكل مباشر بين البلدين، سوى اختلاف وجهات النظر في جل ملفات السياسة الخارجية، ولذلك عمدت زيارة طحنون بن زايد للتركيز على الشق الاقتصادي كتمهيد نحو الوصول إلى علاقة بمستوى معتدل وهادئ.
إلى الآن يبدو أن الإمارات ترغب في وضع خطوة نحو الأمام بهدف تحسين علاقاتها مع أنقرة، ولا شك أن أنقرة سترحب بذلك، وسيظهر ذلك من خلال حجم ونوعية المشاريع الاستثمارية المزمع قيامها في تركيا، وعقب ذلك يمكن أن نشهد خطوات عملية أخرى تركز على فتح مزيد من قنوات التواصل، وإعادة العلاقات الدبلوماسية إلى سابق عهدها.
لكن مع ذلك فهذا لا يعني أننا نراهن على علاقة تحالفية بحتة، فالعلاقات الدولية لا تحتم على الفاعلين أن يختاروا ما بين لعب دور الصديق أو العدو، بل علاقات الدول يمكن أن تشهد هذا النوع من التحركات بما ينعكس على تحقيق مصالح الطرفين، وهذا المبدأ في الحقيقة تبرهن عليه أنقرة في جل علاقاتها مع الدول الأخرى.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.