يصعب وضع معايير واضحة يستطيع الفنان من خلالها أن ينتج تجربة أصيلة وقادرة على الوصول إلى جمهورها الصحيح، بلا مساومات يفرضها الواقع أو الضغوط المجتمعية، و"فريدي ميركوري" لم ينجح في تحقيق ذلك فحسب، بل تمكن من تجاوز لحظته الزمنية والاحتفاظ بمكانته بعد مرور أكثر من 26 عاماً على وفاته.
فقد شهدت لندن، في الأيام القليلة الماضية، العرض الأول لفيلم الملحمة البوهيمية - Bohemian Rhapsody الذي يروي قصة حياة مؤسس فرقة كوين ومغني الروك الأشهر "فريدي ميركوري"، بعد أن استغرق نحو ثمانية أعوام كي يكتمل، ليس فقط بسبب التحديات التي واجهت صناعة الفيلم، بل أيضاً لأنه يحاول مقاربة شخصية مركَّبة حفلت حياتها بالتناقضات التي أنتجت في النهاية نوعاً من الفن استطاع تخليد التفاعلات الإنسانية الجامحة التي ميزت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
عُرض الفيلم في قاعة "ويمبلي أرينا" التي تتسع لنحو 12 ألف شخص، تزامناً مع عرضه في "إستاد ويمبلي" الذي شهد الحفل التاريخي لفرقة كوين عام 1985وحضره حينها ما يقارب 72 ألف شخص بالإضافة إلى أكثر من مليار متفرج حول العالم.
تقمُّص الشخصية
واجه الممثل الأميركي -من أصل مصري- رامي مالك تحدياً حقيقياً أثناء العمل على تقمص شخصية فريدي في الفيلم، فقد سافر إلى لندن للالتحاق بدروس تعلُّم الغناء والعزف على البيانو، ثم قام بتركيب أسنان جديدة كي تمنحه المظهر المميز لأسنان فريدي الأمامية ونبرة صوته الخاصة وطريقته في الحديث، لم يكن الأمر سهلاً، لكن التحدي الأصعب كان التعمق في جوهر الشخصية.
"لم يتنازل فريدي عن الصفة المميزة لروحه، هذا الرفض المطلق للتنميط ولكل ما هو متفق عليه مجتمعياً" كما أوضح رامي مالك لبي بي سي، وأضاف: "لقد نجح بالفعل في تحقيق ما نتطلع إليه جميعاً في اللحظة الراهنة، ألا يتم تصنيفنا، أن نمتلك الأصالة الكافية ونعبر عنها قدر المستطاع دون الخوف من أن يتم حصرنا داخل تعريف محدد".
وعلى الرغم من توجيه بعض الانتقادات للفيلم لاتهامه بعدم تناول الحقائق الهامة في حياة فريدي، أو التشويش على بعض الأحداث التي قد تثير جدلاً مجتمعياً، إلا أنه"ليس فيلماً وثائقياً" في نهاية الأمر كما أكد مالك، الذي رفع أداءه المذهل في الفيلم من توقعات النقاد بإمكانية حصوله على أوسكار أفضل ممثل، وهو ما قد تكشفه الأشهر القليلة المقبلة.
البوهيمي الرافض للمجتمع
أوضح رامي مالك صعوبة المهمة التي واجهها أثناء محاولة فهم فريدي، فبينما كان يبحث عن طريقة يتسلل من خلالها إلى داخل الشخصية أدرك فجأة "أنه ترك لنا يومياته مخبأة داخل أغانيه".
استُلهم عنوان الفيلم من اسم أشهر أغنية قدمها فريدي خلال مسيرته القصيرة الحافلة، أغنية الملحمة البوهيمية التي أطلقها في بداية السبعينيات بعد أن قام بكتابتها وتلحينها وأدائها، واستمرت على قائمة الأفضل مبيعاً لأكثر من 9 أشهر متواصلة، وكانت الأقرب في التعبير عن رؤيته الذاتية للعالم بكلمات فلسفية أدهشت الجماهير حينها.
لم يتنازل فريدي عن الصفة المميزة لروحه، هذا الرفض المطلق للتنميط ولكل ما هو متفق عليه مجتمعياً
ولد فريدي-اسمه الأصلي فاروق بوسارا- في زنجبار لعائلة هندية فارسية، وتلقَّى تعليمه البريطاني في مدرسة داخلية في الهند، قبل أن ينتقل مع عائلته إلى لندن بسبب الثورة التي اندلعت في زنجبار وانضمت بعدها إلى تنزانيا عام 1964.
تميز فريدي بحضور استثنائي على المسرح يتناقض مع خجله وهدوئه في الحياة العادية، وهي التناقضات التي شكلت طبيعته الإنسانية، فقد جمعته بماري أوستن علاقة عاطفية استمرت نحو سبع سنوات قبل أن يصارحها باكتشافه لميوله الجنسية المثلية، راجياً منها البقاء معه، وهو ما حدث حيث تحولت علاقتهما إلى صداقة متينة استمرت حتى وفاته عام 1991 متأثراً بمرض الإيدز في الـ 42 من عمره.