ويشكو المواطن أحمد سليم فقدان جزء كبير من الأموال التي يُرسلها إليه أقاربه من خارج غزة، فمع غياب الخدمات المصرفية، يضطر إلى اللجوء إلى الوسطاء الذين يفرضون عمولة عالية.
ويقول سليم، الموجود في منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، لـTRT عربي: "عندما يصل إليَّ من أقربائي مبلغ 100 دولار يُخصم منه نحو 20%، فبدلاً من تسلم 370 شيكلاً أتسلم 310.. هذا ظلم، وأولادي أحق بهذا المبلغ المخصوم".
ويضيف: "نحن بحاجة ماسة إلى هذه الأموال بسبب الأوضاع الصعبة التي نعيشها، وغلاء المعيشة وسط الحرب".
وأدت الشهور المستمرة من القصف إلى تدمير اقتصاد قطاع غزة والأسواق والبنوك والصرافات الآلية، كما اضطر السكان إلى النزوح من منازلهم وترك أعمالهم التي كانوا يعتاشون منها.
ويمنع الاحتلال منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تزويد البنوك بالسيولة النقدية، خصوصاً من عملتَي الشيكل والدولار اللتين تشكِّلان العملتين الأكثر تداولاً في القطاع، ونجم عن ذلك أزمة شح حادة في السيولة النقدية.
"ضائقة مالية"
من جهته، يشير الشاب محمد عبد الغني، وهو موظف حكومي، إلى أن البنوك لا تمتلك السيولة المالية الكافية، وأنها تفرض عمولة تصل إلى 15% أو 20%، بل أحياناً أكثر من ذلك، على الموظفين الذين يرغبون في سحب رواتبهم من البنك بشكل مستعجل.
ويقول لـTRT عربي: "حتى لو توجد طريقة لتسلم الراتب بشكل سريع (فوري) فهناك خصم عليها، أو أنه عليك الانتظار في صف طويل (طابور) أمام الصرافات ليومين أو ثلاثة".
ويؤكد أن "كل شيكل مهم الآن، لأن السلع إن وُجدت فهي غالية جداً والاحتلال لم يُبقِ على شيء، ونحن في أمسِّ الحاجة حتى إلى الشيكل الواحد".
بدوره، يقول محمد مزروع، وهو صاحب محل صرافة، إن "الموظفين يأتون إلى الصراف لسحب رواتبهم، فنواجه مشكلة عدم وجود شيكل أو دولار أو دينار"، مؤكداً "مرور الأهالي بضائقة مالية حقيقية السبب وراءها هو الاحتلال".
والشيكل هو العملة الرئيسية بالنسبة لسكان غزة، بعدها يأتي الدينار الأردني واليورو وكذلك الدولار.
أما الشاب محمد الأخرس الذي كان يعمل تاجراً قبل الحرب فيقول لـTRT عربي: "وصلنا لمرحلة لا يوجد فيها مال لنغطّي مصاريفنا. كانت السيولة تدخل عن طريق حركة المعابر، لكنها أصبحت مغلقة وتحت سيطرة الاحتلال".
وطالب الشاب البنوك، خصوصاً بنك فلسطين، بتوفير السيولة النقدية بالشكل المطلوب والمناسب لكي يستطيع المواطنون تدبير أمورهم.
استهداف للبنوك والصرافات
وحسب مراسل TRT عربي في غزة سامي برهوم، فإن أزمة السيولة بدأت تؤثر في الناس بشكل واضح وسريع بسبب استمرار الحرب ووقف إدخال الأموال من الخارج، وهذا أثَّر في تفاقم الأزمة، في البنوك ومحال الصرافة.
وأغلب البنوك استهدفتها إسرائيل من الشمال إلى الجنوب. ومن أصل ما يقارب 90 لـ95 ماكينة صراف آلي تبقَّى يعمل منها الآن أقل من 5 ماكينات أغلبها في المناطق الوسطى من قطاع غزة، وهذا أوجد صعوبة في توفير الأموال وتكدس المواطنين وشح وجود العملة النقدية، وفق ما أفاد به برهوم.
وأكد أن الجيش الإسرائيلي تعمَّد استهداف البنوك ومحال الصرافة بشكل ملحوظ، بل قُتل مسؤولون عن محل صرافة، خصوصاً في المناطق الجنوبية مثل مدينة رفح.
كانت سلطة النقد الفلسطينية (تشرف على القطاع المصرفي، وتعمل بمثابة المستشار المالي الرسمي للسلطة الفلسطينية) قد نشرت في أبريل/نيسان الماضي أن الاعتداءات المتكررة على فروع المصارف والصرافات الآلية في قطاع غزة، باتت تهدد استمرارية عمل هذه الفروع، وقدرتها على صرف رواتب الموظفين وتسديد الحوالات المالية لأصحابها.
ويُرجع الباحث الاقتصادي الدكتور محمد أبو عليان، سبب الأزمة إلى سرقة جيش الاحتلال جزءاً كبيراً من السيولة النقدية من بيوت المواطنين والشركات والمؤسسات، وإتلاف جزء من الأموال نتيجة القصف المتواصل.
ويقول أبو عليان لـTRT عربي إن الاحتلال قصف البنوك وحرقها بشكل متعمَّد وبالتالي أتلف السيولة المتوفرة فيها.
ويشير أبو عليان إلى أن قطاع غزة بشكل عام يعاني عجزاً تجارياً كبيراً، أي إن الواردات تفوق الصادرات وبالتالي مع الحرب وإغلاق المعابر انهار أحد مصادر السيولة النقدية للقطاع.
فضلاً عن عدم قدرة السلطة الفلسطينية والمؤسسات الدولية على صرف رواتب الموظفين والمساعدات الاجتماعية أو إدخال السيولة النقدية للقطاع، نظراً إلى القيود الإسرائيلية، مما أدى إلى انهيار دخل آلاف الأسر.
وحسب أبو عليان، فإن المواطنين يُضطرون إلى دفع عمولة كبيرة جداً مقابل الحصول على تحويلات من الخارج أو سحب أموالهم من الحسابات البنكية، كما لجأت المكاتب إلى التلاعب بشكل كبير في سعر صرف الشيكل مقابل الدولار.
ويلفت الباحث الاقتصادي إلى أن الحرب أدت إلى تحكم بعض التجار ووكلائهم في السيولة أو في القدرة على الوصول إلى الصرافات الآلية، بمعنى أن هؤلاء احتكروا السيولة لكي يُحققوا الربح جراء العمولات الكبيرة وغير المشروعة، إذ ظهرت المعاملات غير المشروعة، كالاستغلال والاحتكار، كما ظهرت طبقة جديدة من تجار الحروب.
ويؤكد أبو عليان أنه "حتى قبل الحرب كان الاحتلال الإسرائيلي يتحكم باقتصاد غزة، نظراً إلى الارتباط الكبير والسيطرة على المعابر وتبعية الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، واقتصاد غزة بشكل خاص، للسيطرة الإسرائيلية؛ فهو يتحكم في جميع مصادر دخول السيولة".
وسبق أن وصفت ربا جرادات، المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية، الوضع في غزة بأنه كارثي. وقالت: "جرى محو أحياء بأكملها من الوجود، ودُمرت البنية التحتية، مما أدى إلى تدمير قطاعات اقتصادية كاملة وشلّ نشاط سوق العمل، وأثَّر بشكل كبير في حياة الفلسطينيين وسبل عيشهم لأجيال قادمة".