ورغم سقوط اللائحة وبقاء الغنوشي في منصبه ورغم كل المحاولات التي هدفت إلى إسقاطه إلا أن حسابات الفوز والخسارة على المستوى السياسي لا تؤخذ بظاهر الأمور، وبمن كان مع اللائحة أو ضدها. فنتيجة التصويت السري لم تعط لأي طرف الأغلبية بعد غياب ثلث النواب تقريبا في حين صوّت 97 عضوا بـ"نعم" على اللائحة دون بلوغ نصاب 109 بينما عارضها 16 نائباً، فيما اعتُبرت 18 ورقة ملغاة.
قراءة هذه الأرقام تحيلنا مرة أخرى إلى طريقة تعاطي الأحزاب مع نتائج الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2019 والتي أفرزت برلماناً فسيفسائياً لا أحد يملك فيه الأغلبية المريحة، فعلى مدار ما يقارب السنة تغيرت التحالفات بين الكتل البرلمانية مراراً حتى ضاعت بوصلة الفرز وأصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، والعكس بالعكس.
قلب تونس والأصوات الملغاة
يدرك جيداً كل من تابع التموقعات الحزبية قبل جلسة التصويت أن حزب قلب تونس الذي يتزعمه المرشح السابق للرئاسة نبيل القروي كان صاحب القرار في ترجيح الكفة لهذا الطرف أو ذاك ببقائه الكتلة الوحيدة التي لم تحسم موقفها إلى آخر لحظة قبل التصويت، وهو ما ورد في تصريح للناطق الرسمي باسم الحزب الصادق جبنون قال فيه بأن حزبه لم يحسم أمره بعد في مسألة التصويت وأن قلب تونس هو "القوة المحددة" لمصير رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي في جلسة سحب الثقة.
قلب تونس الذي غازله الجميع سعياً لكسب أصواته بمن فيهم من كانوا يشيرون إليه بالأمس بأصابع الفساد، تمكن من مراودة الكتل البرلمانية التي قدمت لائحة سحب الثقة حتى أنهم أعلنوا ساعات قبل التصويت على لسان القيادي في حزب تحيا تونس بأن نصاب الـ 109 اكتمل وأن مصير رئيس البرلمان بات محسوماً.
إلا أن المفاجأة كانت بوجود 18 ورقة ملغاة حملت معظمها توقيعات مزدوجة بين "نعم" و"لا" قلبت الكفة لصالح الغنوشي، ورغم أنها رسالة أراد حزب القروي من خلالها إيصال عدم اصطفافه مع أي طرف إلا أنها ربما تنذر بتصدع داخل الحزب في الأيام القادمة، وهو ما تجلى في تعبير بعض نواب الكتلة عن خيبتهم من موقف الحزب، فضلاً عن استقالة النائبة "ليليا بالليل" من قلب تونس عقب التصويت على اللائحة.
حركة النهضة والحرب الباردة مع الرئيس
على الرغم من سقوط لائحة سحب الثقة من الغنوشي إلا أن حركة النهضة اليوم لا تعتبر فائزاً في المعركة بقدر ما يمكن اعتبارها ناجياً من أسوأ نتائجها.
فالأصوات التي صوتت ضد الغنوشي مع احتساب الأصوات الملغاة والبيضاء تعني حسابياً أن النهضة وحلفاءها لا يملكون الأغلبية البرلمانية، هذا على مستوى موازين القوى، أما على المستوى السياسي فيرى مراقبون أن التصويت لم يمنح الغنوشي تزكية جديدة لرئاسة البرلمان بقدر ما منحه فرصة للخروج من باب مشرّف عبر الاستقالة، لا سيما وأن ما يقارب نصف البرلمان رافض لوجوده على رأس المؤسسة الأولى في البلاد.
فيما يرى آخرون أن بقاء الغنوشي في أعلى هرم البرلمان ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على التوازن السياسي ولما يعتبرونه محاولات للتغول على مؤسسات السلطة في البلاد من قبل الرئيس قيس سعيد باستحواذه على القرار في قصر قرطاج وفي قصر الحكومة بالقصبة، بعد تعيينه لهشام المشيشي رئيساً للحكومة، فضلاً عن كسبه الولاء السياسي لبعض الكتل البرلمانية التي قدمت لائحة سحب الثقة من الغنوشي وعلى رأسها حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب.
التيار الديمقراطي وضياع البوصلة
مع طرح السؤال اليوم عن أكبر الخاسرين في جلسة سحب الثقة فالإجابة بلا شك هي "التيار الديمقراطي"، فإذا استثنينا حزب عبير موسي فإن التيار هو أكثر حزب تصدر المشهد ودفع نحو الأمام في الفترة التي سبقت الجلسة.
الخصومة التي أعلنتها قيادات التيار ضد حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي دفعت بالحزب إلى نكث جل مبادئه التي قامت عليها حملته الانتخابية التي أسسها على شعارات محاربة الفساد والقطع مع منظومة الاستبداد، غير أن هذه الشعارات التي يصفها البعض بالطهورية اندثرت في معركتين خلال أسبوعين فقط:
معركة أولى كسبتها حركة النهضة عبر الإطاحة برئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وهي التي استبسل فيها التيار الديمقراطي في الدفاع عن الفخفاخ إلى آخر رمق بتفنيد وتكذيب كل الادعاءات التي تشير إلى شبهة فساد حول الرجل، ليجد التيار نفسه في آخر المطاف مدافعاً عن "الفساد" الذي لطالما أعلن محاربته بعد ثبوت الادعاءات، حسب ما أقره تقرير هيئة الرقابة العامة والتي كلفها وزير الإصلاح الإداري محمد عبو بنفسه وهو (مؤسس حزب التيار).
معركة ثانية أضاع فيها التيار بوصلته المبدئية بالتماهي مع أجندة الحزب الدستوري سليل نظام بن علي الذي وضع هدفاً واحداً له منذ دخوله البرلمان وهو ترذيل العمل البرلماني والإطاحة براشد الغنوشي وحركة النهضة، من خلال الحركات البهلوانية التي كانت تقوم بها النائبة عبير موسي ومن لف لفها.
هذا التماهي لم يتجلى فقط في التخندق مع الحزب الدستوري يوم التصويت للإطاحة برئيس البرلمان بل وصل الأمر بحزب التيار إلى إصدار بيان حمّل فيه كل مسؤولية تعطيل جلسات البرلمان على عاتق راشد الغنوشي ولم يتطرق البيان في كلمة واحدة إلى الفوضى التي قادتها عبير موسي وكتلتها طيلة الفترة الماضية.
رابحٌ ولكن !
لم تحلم زعيمة كتلة برلمانية قوامها 15 نائباً بأن تجر وراءها 97 نائباً يصوتون على مشروعها الذي عملت عليه منذ دخولها البرلمان، والحديث هنا بلا أدنى شك عن زعيمة الحزب الدستوري عبير موسي. وهذا لا يدل على قوة لها في ذاتها بقدر الدعم الذي تلقته خصوصاً من بعض الجهات الخارجية. يكفي النظر إلى المساحة التي خصصت لها وبشكل مباشر على قنوات فضائية مثل العربية وسكاي نيوز الإماراتية.
فالمرأة التي كانت بوقاً لنظام بن علي والتي لفظتها الثورة وتمكنت من العودة إلى المشهد السياسي ودخلت البرلمان منبوذة من كل مكوناته، تجد نفسها اليوم تحقق غاياتها باستغلال حالة الشتات التي يعيشها الطيف السياسي الذي جمعه النضال يوماً ما ضد نظام بن علي، مجمعة حوالي نصف البرلمان خلف مشروعها الذي جيشت له عبر وسائل إعلام أجنبية تناهض الربيع العربي وعبر السوشيال ميديا.
كما أنها لم تتوقف عن تعطيل سير جلسات المجلس و قيامها بالاعتصام تلو الآخر تحت قبة البرلمان بغاية تمرير مشاريعها ولوائحها قبل أي أولوية أخرى يجمع عليها النواب.
تمكنت موسي عبر كل ذلك من كسب اصطفاف عدد هام من النواب وراء مشروعها القائم على عداء الإسلاميين. وهو مكسب ثمين بالنسبة لها، ولكن في المقابل كان سقوط اللائحة بمثابة نكسة كبرى لهذا المشروع خاصة مع الدعم الخارجي المفضوح وتحديدا من دولة الإمارات التي راهنت على سقوط الغنوشي، لتنتصر الديمقراطية في جولة أخرى على المحاولات الخارجية لضرب التجربة التونسية.
ما بعد جلسة سحب الثقة
أخيراً. لم يكن الصراع البرلماني الأخير سوى صورة معاكسة أخرى من صور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جاءت بشتات حزبي لم تحسن الأحزاب جمعاء قراءته إلى غاية اليوم.
فمع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية التي تعيشها البلاد منذ سنوات أراد التونسيون من النخبة السياسية أن تجتمع على مشتركات وطنية وتترك الخلافات جانباً، إلا أن الخصومة طغت على الوازع الوطني لدى الأحزاب كافة، ما يجعل جلسة سحب الثقة الأخيرة محطة تعميق لأزمة الثقة بين كل مكونات المشهد، وهو ما ينذر ربما بسيناريوهات عديدة من بينها انتخابات سابقة لأوانها.