عادت القضية القبرصية إلى الواجهة مجدداً بعد الزيارة الرسمية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان برفقة وفد كبير يضم سياسيين وقادة أحزاب ورجال أعمال إلى الجزيرة. وجاءت الزيارة للمشاركة في الذكرى الـ47 على "عملية السلام" التي نفذتها القوات المسلحة التركية في 20 يوليو/تموز عام 1974 لحماية أتراك الجزيرة من هجمات الجالية الرومية المدعومة من اليونان، وتمخض عنها لاحقاً قيام جمهورية شمال قبرص التركية عام 1983.
وخلال الزيارة التي استمرت يومين شارك الرئيس أردوغان بافتتاح مشاريع تنموية حيوية بعاصمة شمال قبرص التركية لفكوشا، وأشار خلال كلمته إلى أن تركيا تدعم بشكل كامل الجهود القبرصية الرامية إلى إحياء مدينة مرعش السياحية المغلقة منذ عام 1974، إذ قال: "منطقة مرعش القبرصية ستستعيد أيامها الخوالي من خلال فتحها بطريقة لا تضر بحقوق أي شخص وفي إطار القانون الدولي".
ويمكن قراءة هذه التحركات باعتبارها رداً تركيّاً على محاولات اليونان لسلب حق تركيا وجمهورية شمال قبرص في البحث والتنقيب عن مصادر الطاقة الطبيعية بمياههما الدولية، فضلاً عن إرسال رسائل واضحة تفيد بضرورة قبول الاقتراح التركي لحل مشكلة الجزيرة المتمثل بحل الدولتين المتكافئ الذي يعطي السيادة لكلا الشعبين، الاقتراح الذي ترفضه قبرص الجنوبية واليونان.
"مدينة أشباح"
تقع منطقة مرعش السياحية بمدينة "غازي ماغوصة" في جمهورية شمال قبرص التركية على الخط الفاصل بين شطرَي قبرص، وبعد إغلاقها بموجب اتفاقيات عقدت مع الجانب الرومي عقب "عملية السلام" العسكرية التي نفذتها تركيا في الجزيرة عام 1974 تحولت حرفياً إلى "مدينة أشباح" وباتت أزقتها ومبانيها تخلو من ساكنيها ومرتاديها.
وفي الفترة التي سبقت "عملية السلام" التركية عام 1974 عُرفت مرعش باسم لاس فيغاس البحر الأبيض المتوسط، إذ كانت أهم مركز سياحي وترفيهي ليس فقط بالجزيرة بل في البحر الأبيض المتوسط ككل، وكانت ذات يوم وجهة متكررة لنجوم العالم والأثرياء وموطناً لرجال الأعمال الأوروبيين والأسماء السينمائية المشهورة مثل مارلين مونرو وصوفيا لورين.
وخلال الـ47 عاماً الماضية التي شهدت خلو المدينة من ساكنيها بعد إحاطتها بالأسلاك الشائكة وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة بعد انتهاء العملية العسكرية في 18 أغسطس/آب 1974، وباستثناء عناصر القوات المسلحة التركية والطلاب المقيمين في سكن البنات المجاور لمساكن الجيش والمبنى التابع للأمم المتحدة، يمنع منعاً باتاً دخول أي شخص لا يحمل بطاقة خاصة إلى المنطقة، كما لا يسمح للسياح الأجانب الذين يرغبون في رؤية "مدينة الأشباح" بتجاوز كنيسة أيقونة مرعش.
دعم تركي كامل لإعادة إحياء المدينة
منذ العام الماضي تتضافر جهود تركيا وجمهورية شمال قبرص لإحياء مدينة مرعش وفتحها أمام الزوار مجدداً بعد إغلاق لـ47 عاماً وفق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وقتها، الذي على إثره تحولت المدينة إلى مشهد سينمائي يظهر سيطرة الطبيعة على المدن بعد خلوها من ساكنيها. وتضم المدينة العديد من الفنادق والمنتجعات والمنازل والمشافي والمدارس التي تنتظر إعادة الحياة إليها.
ويذكر أنه في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2020 فتحت جمهورية قبرص التركية جزءاً من مدينة مرعش بعد إغلاق تام دام أكثر من 46 عاماً، وجاب وقتها نحو 200 شخص إلى جانب الصحفيين الشوارع المفتوحة في جادة الديمقراطية والجزء الساحلي من المنطقة ليشهدوا هذه اللحظة التاريخية. كما زارها الرئيس التركي برفقة رئيس جمهورية قبرص في الذكرى الـ37 لقيام جمهورية شمال قبرص التي صادفت 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وخلال زيارة الرئيس أردوغان لقبرص الثلاثاء قال: "إن منطقة مرعش بجمهورية قبرص التركية ستنهض مجدداً في إطار القانون الدولي". وأشار أردوغان إلى أن بلاده ستبدأ مشاريع لإحياء منطقة مرعش القبرصية. وأضاف أن قبرص التركية بدأت تنهض وأن أنقرة ستعمل على توسيع مرحلة الرقمنة فيها.
وخاطب أردوغان الشعب القبرصي التركي قائلاً: "سنستمر في الوقوف إلى جانبكم بأعمال ملموسة تمس حياتكم اليومية، وأثناء ذلك لا نفكر فقط بحاضر الشعب القبرصي التركي،ولكن أيضاً بمستقبل هذه الجزيرة الجميلة". وأكد أن رفاه شعب جمهورية قبرص التركية واستقراره يستحوذ على أهمية بالغة لتركيا، مشيراً إلى أن الجانب الرومي يفرض على الشطر التركي حصاراً جائراً منذ عشرات الأعوام.
انتقادات متبادلة
على الدوام تطالب أنقرة المجتمع الدولي بضرورة تقييم التطورات بالجزيرة القبرصية من دون تحيز وأن تؤخذ في الحسبان الحقائق بالجزيرة لا الدعاية المضللة التي تسوقها إدارة شطرها الجنوبي.
ورداً على تصريحات الرئيس التركي ورئيس جمهورية شمال قبرص المتعلقة بإحياء مدينة مرعش بعثت قبرص الجنوبية الخاضعة لليونان والعضو في الاتحاد الأوروبي بمذكرة احتجاج رسمية إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، أشارت فيها إلى أن "افتتاح مرعش ينتهك قرارات الأمم المتحدة ويقوض السلام".
وفي السياق ذاته أصدر الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بياناً جاء فيه: "يشدد الاتحاد الأوروبي مجدداً على ضرورة تفادي الخطوات الأحادية المنافية للقانون الدولي، والاستفزازات الجديدة التي يمكن أن تزيد التوترات في الجزيرة وتهدد استئناف المفاوضات بهدف التوصل إلى تسوية شاملة للمسألة القبرصية".
في المقابل قالت وزارة الخارجية التركية إن تصريحات بوريل حول زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى جمهورية شمال قبرص التركية مثال جديد على انفصال الاتحاد الأوروبي عن الواقع. وأشار المتحدث باسم الخارجية التركية تانجو بيلغيتش إلى أن تصريحات بوريل التي صدرت بدعوى التضامن بين دول الاتحاد هي بحكم العدم بالنسبة إلى أنقرة. ولفت إلى أن تلك التصريحات لا تتعدى كونها ترديداً لما تقوله اليونان وقبرص الرومية اللتان تستغلان حق النقض ضمن الاتحاد على نحو سيئ في الدفاع عن أطروحاتهما.
من جهتها انتقدت جمهورية قبرص التركية تصريحات بوريل، وجاء في بيان وزارة خارجيتها: "إن مرعش أرض قبرصية تركية وبلادها تمتلك حق السيادة المطلقة عليها". وأوضح البيان أن تصريحات بوريل حول مرعش تؤكد مرة أخرى انحياز الاتحاد الأوروبي إلى قبرص الرومية، وأكد أن قبرص التركية ستواصل بعزم مع أنقرة الدفاع عن مصالحها.