ساهمت الحرب السورية في توقف كثير من المعامل، وتضرُّر كثير من الورشات والصناعات في الشمال السوري، من خلال هجرة كثير من الصُّنَّاع إلى دول الجوار طلباً للأمان والعمل، فضلاً عن تقطُّع أوصال البلاد وانتشار حواجز النظام السوري التي تفرض الضرائب على عبور البضائع، إلى جانب تراجع القطاع الزراعي والمنتجات التي تشكل المواد الأولية للصناعات، وارتفاع أسعار المحروقات بكل أنواعها، إضافة إلى خوف كثير من المستثمرين من تعرُّض منشآتهم للقصف، الأمر الذي سيحرمهم رؤوس أموالهم. ولكن رغم التحديات لا يزال بعض الورشات والصناعات الصغيرة في الشمال السوري يتحدى ظروف الحرب، باعتبارها مصدر الرزق الوحيد لأصحابها والعاملين بها.
مشاغل التين المجفَّف
يُعتبر التين موسماً اقتصادياً رئيسياً يعود بمبالغ مالية جيدة على المزارعين والتجار، باعتبار شجرة التين سريعة الإنتاج وموسمها هو الأفضل، لانخفاض تكاليف الزراعة مقارنة بالربح، لذلك يهتم أهالي الشمال السوري بزراعة شجرة التين على نطاق واسع، مما زاد الإقبال على التين المجفف، ودفع البعض إلى افتتاح ورشات تجفيف التين، التي باتت مهنة رائجة، إذ انتشرت تلك الورشات في محافظة إدلب، خصوصاً مدينة أريحا وقرى جبل الزاوية، لكن مع انطلاق الثورة السورية توقف معظم الورش، فيما فضّل البعض تحدِّي الظروف والاستمرار في العمل.
محمود زكريا من بلدة كورين بريف إدلب، صاحب ورشة لتجفيف التين، يقول لـTRT عربي عن عمله: "بدايةً نشتري التين اليابس من الأسواق أو من المزارعين بكميات كبيرة، ثم تُفرَز الحبات حسب اللون والحجم".
ويبين زكريا أن التين يُنقع بعد ذلك بماء مغليّ مملَّح لعدة دقائق لغسله من الشوائب، ثم توضع ثمار التين في سلال بلاستيكية وتُدخَل إلى غرفة مُحكَمة الإغلاق لمدة 48 ساعة لتُعقَّم، ثم يُترك حتى يجفّ تماماً، لتجري بعدها تعبئة التين ضمن قوالب خاصة، لنصل إلى عملية التغليف والتعليب ليصبح جاهزاً للتسويق".
ويشير زكريا إلى رغبته في المحافظة على عراقة هذه المهنة، والاستمرار في العمل بورشته رغم التحديات والعوائق، منها القصف والعمليات العسكرية وتقدم قوات النظام، إلى جانب غلاء الأسعار وندرة المواد الأولية وغلاء أسعارها".
كما يواجه زكريا وغيره من أصحاب الورشات تراجع إنتاج التين، بسبب امتناع المزارعين عن الذهاب إلى أراضيهم القريبة من جبهات القتال، فضلاً عن إحراق عناصر الأسد كثيراً من الاشجار أو قطعها، إضافةً إلى تأثر العمل بإغلاق الطرقات بين المحافظات السورية".
وينوّه زكريا بأنه بدأ العمل على تصنيع التين المجفف منذ 5 سنوات، وتضم ورشته نحو 200 عاملة، لكلّ منهن عملها، ابتداءً من غسل ثمرة التين وصولاً إلى التعبئة والتغليف، ويُصدَّر التين إلى السعودية والعراق، عن طريق تركيا، مؤكداً أن إنتاج الورشة كان سابقاً يتراوح بين 800 و900 طن سنوياً، فيما انخفض الإنتاج هذا العامّ إلى النصف تقريباً.
جميلة الحسون (25 عاماً) نازحة من معرة النعمان إلى بلدة كورين تعمل في ورشة التين المجفف، وعن عملها تقول: "وجدت في الورشة عملاً يعينني على قسوة الحياة، لأنفق على ولدي المعاق بعد وفاة زوجي في الحرب منذ أكثر من سنتين".
وتوضح الحسن أن عملها يتضمن تعليب ثمار التين المجفف بصناديق أو صحون من الفلين أو ضمه على شكل قلائد وحبال".
مشاغل الخياطة
ظهرت مؤخراً مشاغل الخياطة لسد النقص الناجم عن توقف معامل ومصانع الألبسة الجاهزة في مناطق إدلب وحلب.
عائشة محمد يوسف الحسين، 40 عاماً، من بلدة كفريحمول بريف إدلب الشمالي، أم لثلاثة أطفال، افتتحت مشغلاً للخياطة منذ ثلاث سنوات، وعن عملها تقول: "يوفر المشغل فرص عمل لعدد من النساء النازحات والمعيلات، لتتمكن كل امرأة من الاعتماد على نفسها للحصول على معيشة أفضل، وتعلُّم مهنة تحميها من الحاجة، وضيق العيش".
تبيّن الحسين أن مشغلها يستوعب 20 عاملة، يحكن الملابس ويصنعن الاكسسوارات.
أم أحمد، 49 عاماً، تتقن مهنة الخياطة ووجدت فرصة عمل داخل المشغل، وعن ذلك تقول: "أعمل لأعول زوجي المسنّ المريض، و8 أبناء، بعد أن أجبرتنا ظروف الحرب على ترك بيتنا في ريف معرة النعمان الشرقي، والسكن في مخيم يقع في بلدة كفريحمول، وحين سمعت بمشغل الخياطة، انضممت إلى بقية النساء العاملات فيه، رغبة في تحصيل ما يغيّر وضعنا المعيشي نحو الأفضل، كما اصطحبت معي زوجتَيْ ولدَيّ لتعلُّم المهنة".
أم يوسف، 38 عاماً، أم لخمسة أطفال، وهي متدرّبة داخل المشغل، تأمل أن تتعلم المهنة، وتُنهِي تدريبها على التفصيل والخياطة لعلّها تعول أفراد أسرتها، وتخيط ملابس أطفالها بنفسها، لارتفاع أسعار الملابس الجاهزة في المحلات التجارية.
صناعة المؤونة
كذلك تنتشر في الشمال السوري ورشات إعداد المؤونة التي أصبحت مصدر رزق لكثير من النساء المعيلات في إدلب، إذ ليس بالإمكان الاستغناء عن المؤونة التي تُخزَن صيفاً، وتُستهلك خلال فصل الشتاء، وتوفر على الأهالي كثيراً من المصاريف.
كوثر علي باشا، من مدينة بنش بريف إدلب، مديرة جمعية "بيت حناء" لتنمية المرأة، تتحدث لـTRT عربي عن عملها بقولها: "تأسست جمعية (حناء) بناءً على متطلبات المجتمع، وما تحتاج إليه المرأة في ظل الأوضاع والحرب الراهنة، حيث يهدف المشروع إلى تغيير واقع المرأة المتضررة في ظلّ الحرب وتحويلها إلى طور الإنتاج، ودعم إمكانيات المرأة المعيلة وتقوية شخصيتها في الحياة العملية، وتنمية دورها، فضلاً عن توفير متطلبات المؤونة بجودة عالية في البيت الإدلبي".
وتتابع كوثر: "مشروع (بيت المؤونة) الذي نعمل به حالياً منذ أكثر من عام هو مشروع غذائي تمويني يجمع عدداً من النساء في بيت واحد للتكاتف، وتقديم أفضل ما لديهن من جودة في إنتاج وتوفير ما تحتاج إليه الأسرة من منتجات بناءً على المواسم المختلفة، كتجفيف الخضار وتحضير المربيات والعصائر، كما يمنح النساء اللواتي وجدن أنفسهن معيلات لأنفسهن وعائلاتهن فرص عمل أكثر".
اقرأ أيضاً:
وتشير كوثر إلى أن المؤونة الشتوية من الأمور الهامة والأساسية في حياة العائلة السورية، إلاّ أن الأوضاع الاقتصادية المتردية أثّرت بشكل سلبي في كمية المؤونة، والموادّ التي بات غلاء الأسعار يتحكم في كميتها ونوعها، إذ لم يكن العمل في الجمعية بمنأى عن ظروف الحرب، فيختلف إنتاج الجمعية من عام إلى آخَر بناءً على الأوضاع الأمنية والاقتصادية التي بدأت تسوء يوماً بعد يوم، مما تسبب في غلاء المواد الأولية والتكاليف التي ساهمت في غلاء المنتجات في بيت المونة، ولا سيما خلال العام الحالي، إذ بلغت الأسعار ذروتها من الغلاء الفاحش الذي أضرّ بالجميع، ولكنها تحاول مع زميلاتها توفير المنتجات بأسعار مناسبة، مؤكدة ضرورة زيادة المشاريع التي تؤمّن فرص عمل للنساء في مختلف المجالات لتكون كل امرأة قادرة على إعالة نفسها وأخذ دور المعيل لأولادها عند الحاجة.
المقالع الحجرية
كذلك ساعدت الحاجة إلى مواد البناء في الشمال السوري على انتشار المقالع الحجرية، إذ لا تغيب أصوات التفجيرات في مقالع الحجر عن مناطق محافظة إدلب التي تضمّ وحدها نحو 50 مقلعاً تتركز في مناطق دير حسان وكفر لوسين وسرمدا.
حسين العبود، 45 عاماً، من بلدة دير حسان، صاحب مقلع حجري، يتحدث عن عمله فيقول: "وصول عدد كبير من المهجَّرين والنازحين من المناطق التي سيطر عليها النظام السوري إلى الشمال السوري زاد الحاجة إلى بناء مساكن جديدة، وترميم منازل أخرى دمرها القصف، كل هذا شجعنا على إنشاء المقالع الحجرية لتأمين مستلزمات البناء من رمل وبلاط الأرضيات وحجر البناء.
ويؤكد العبود أن المقالع تعتمد على مبدأ تفتيت الجبال لاستخراج الحجارة ثم طحنها لتأمين موادّ البناء وفرش الطرقات، مبيناً أن تشغيل المقلع الواحد يحتاج إلى مجموعة عمال تتراوح بين 10 و20 عاملاً من أصحاب الخبرة في هذا المجال.
ويشكو العبود أعباء العمل في المقالع بسبب ارتفاع أسعار المحروقات ومادة السماد الزراعي التي تُستخدم في تفجير جبال المقلع، والتي أصبحت باهظة الثمن مقارنةً بما كانت عليه سابقاً، ناهيك بتوقُّف العمل عند تزايد القصف وتخوُّف الناس من نزوح جديد.
جميل السراقبي، 35 عاماً، من بلدة أطمة، يعمل في أحد المقالع المنتشرة في المنطقة، وعن مخاطر العمل يقول: "الغبار المنتشر في الأجواء في أثناء العمل يسبب عديداً من الأمراض، والصخور الناجمة عن التفجير تتحول إلى شظايا تسبب خطراً على حياة العمال والأهالي، ولكن الحاجة إلى المال تضطرّني إلى لاستمرار في العمل رغم المخاطر والصعوبات".
معامل المنظفات
أيضاً صناعة المنظفات تفرض وجودها في مناطق إدلب وريفها، وذلك ضمن معامل وورشات صغيرة، وقد ازداد الطلب على المنظفات المحلية بعد تمكُّن صُنّاعها من إنتاج موادَّ ذات جودة وفاعلية جيدة تنافس الماركات السورية الشهيرة والباهظة الثمن، قياساً بالمنظفات المحلية التي تتناسب مع واقع الأهالي المعيشي الصعب وموردهم المالي الهشّ.
أبو إبراهيم، 49 عاماً، من مدينة إدلب، أحد العاملين في مجال صناعة المنظفات، وعن عمله يقول لـTRT عربي: "الحاجة إلى العمل جعلتني أُصِرّ على تعلُّم المهنة، عن طريق متابعة الفيديوهات التعليمية عبر يوتيوب، وفي البداية كنت أشتري الموادّ الأولية من السوق وأصنعها لأسرتي، وبالإصرار تحول هذا العمل إلى مصدر دخل لي".
يبيّن أبو ابراهيم أن ورشته تضم عشرة عمال، وتؤمّن المنظفات المحلية بأسعار مقبولة، وتختلف الأسعار حسب نوعية السائل، ونسبة وجود المادة الفعالة فيه (السماكة، الرغوة، العطر)، مشيراً إلى أن عديداً من المواد يدخل في هذه الصناعة، وهي التكسابون، وحمض السلفون، وهيدروكسيد الصوديوم، والملح الصخري، إضافةً إلى الملوّنات والعطور، وتُخلَط المكونات بعناية وبنسب محددة قبل خروجها بشكلها النهائي للتعبئة.
فاضل أبو تيسير، رئيس المجلس المحلي بمدينة بنش في ريف إدلب، يتحدث لـTRT عربي بقوله: "طال قصف النظام السوري وحلفائه كل مناحي الحياة في الشمال السوري، وحرم كثيراً من الأسر أرزاقهم، نتيجة خروج المصانع عن الخدمة، إضافة إلى استهدافه مئات من الأسواق التجارية التي تُعَدّ متنفَّساً اقتصادياً لآلاف المدنيين لكسب المال"، مؤكداً دور عدم استقرار المنطقة، وانقطاع الطرق البرية والممرات، وكثرة الأيدي العاملة، في انتشار الفقر والبطالة.
ويتابع أبو تيسير: "لكن تبقى الورشات الصغيرة إرادةَ حياة، ونواةً لإعادة تحريك العجلة الاقتصادية، وتشغيل اليد العاملة، وتأمين موارد رزق لكثيرين، كما تساهم في توفير منتجات وسلع ضرورية، بأسعار ضمن القدرة الشرائية للأهالي".
ويطالب أبو تيسير المنظمات الإغاثية بزيادة المشاريع التنموية لتخفيف وطأة البطالة، واستثمار طاقات الشباب، في مشاريع لا تحتاج إلى كلفة تشغيلية كبيرة، قد تكون أحد أهم الحلول للحدّ من انتشار البطالة.
يحاول السوريون التأقلم مع ظروف الحرب، والاستمرار في حياتهم بشكل طبيعي، رغم الخطورة التي تحيط بهم وبأرزاقهم، إذ يحاول بعض الأشخاص بنفوس لا تعرف اليأس، الاستمرار والمضيّ قدماً بالورشات والصناعات الصغيرة في محاولة لاستثمار رؤوس أموالهم في مشاريع تنموية، ورفد السوق بمنتجات محلية تضاهي المنتجات المستوردة، وتأمين فرص عمل للأيدي العاملة والعائلات المحتاجة.