نرى أن خوفاً من المجهول الليبرالي لا يزال يغذّي التردُّد أمام عملية قيصرية تكتمل بالتخلي عن روافد الدولة الاجتماعية الشحيحة وتطلق عملية تحرير اقتصادي شامل وجذري ومكلّف إلى حد كبير، لكنه يعد بإطلاق الإرادات الاقتصادية الفاعلة، ونجزم بأن هذا الخوف هو العائق الأكبر الذي يكبّل الحكومات والطبقة السياسية لأنها تهرب من كلفته الاجتماعية المباشرة فتمكث ترقّع ما اتُّفق عليه ولا تجرؤ على الخروج.
الدولة الاجتماعية كانت خياراً وحيداً
فرض الخروج من تحت المظلة الاستعمارية سياسات اجتماعية تتكفل بمجتمع يعاني فعلاً من أمراض الإنسانية الثلاثة (الجهل والفقر والمرض). وكانت الموضة الفكرية في الخمسينيات وما تلاها هي الاتجاه إلى الاعتماد على الدولة صانعة التنمية وكافلة الشعب.
فكانت تجربة أحمد بن صالح الاشتراكية. انتهت التجربة بتخريب داخلي خصوصاً عند المساس بالملكيات الزراعية. لكن التجربة تركت للدولة أهمّ الشركات الوطنية العمومية في قطاعي الخدمات والإنتاج الصناعي (تكرير الفوسفات خصوصاً) فمال الهادي نويرة إلى تجربة ليبرالية محدودة عبر انفتاح مدروس على رأس المال الخاص الأجنبي والمحلي، سُمّيت بتجربة تعايش القطاعات. أنتجت التجربة نسب نمو محترمة وموّلَت المزيد من المشاريع الاجتماعية في الصحة والتعليم والبنى التحتية. لقد سار فيها المحرك الاقتصادي الخاص والمحرك العمومي بتوافق نحو تكملة البناء الاجتماعي للدولة والمجتمع. لكن التجربة عرفت أزمات عميقة انتهت ببرنامج الإصلاح الهيكلي الذي نفذه بن علي متخلياً عن أهمّ المؤسسات العمومية المنتجة.
شهدت مرحلة بن علي أكبر ضربة للدولة الاجتماعية، إذ انكسر تلازم التعليم بالتشغيل فكُسرت المدرسة كمصعد أول للترقي الاجتماعي فظهرت أول موجات بطالة الخريجين وظلت تتفاقم. وإلى ذلك تحولت مؤسسات الصحة العمومية التي كانت تقدم خدمات مجانية لمؤسسات استثمار في الصحة فارتفعت كلفة الخدمة الصحية وصار للبلد صحتان: الخاصة المرفهة والعامة الفقيرة. لقد شحّت موارد الدولة الاجتماعية عبر خطوات تحرير متدرجة، وكانت الفوارق الاجتماعية أحد أسباب الثورة. وصار السؤال المطروح: هل يمكن للدولة الاجتماعية أن تستمر، أي هل يمكن العودة بالدولة إلى ما قبل مرحلة بن علي وقبل الإصلاح الهيكلي؟
الثورة لم تُجِب عن السؤال الاجتماعي الحارق.
مَن حكم بعد الثورة تَشرَّب صورة الدولة الاجتماعية الكلاسيكية -حتى إن برنامج أحمد بن صالح الاشتراكي عاد إلى التداول كأفق اقتصادي- وكان للضغط النقابي دور كبير في الإبقاء على الفكرة لكن دون الانتباه إلى أن شح الموارد كان محدداً رئيسياً، لذلك كان الاتجاه إلى الإفلاس أقرب من القدرة إلى العودة إلى إنفاق اجتماعي جزيل.
وفي الوقت الذي كان فيه النقاش متجها إلى تخفيف كلفة دعم المواد الاستهلاكية الذي لا يستفيد منه الفقراء، تم اتخاذ إجراءات اجتماعية هرباً من الضغط الاجتماعي المتصاعد من الأطراف عبر شركات البستنة مثلاً (وهو حل لبطالة مقنَّعة بكلفة عالية). استهلك موازنة كبيرة دون مردود اقتصادي حقيقي. لكن عجزت كل الحكومات عن استعادة نسق تنمية اجتماعية قائم على الإنفاق العمومي. وقد تحولت هذه الشركات إلى عبء حقيقي على الموازنات.
وقد ضاعف الفساد (الموروث من حقبة بن علي) المستشري في القطاعات المختلفة برعاية النقابة نفسها عجز الحكومات في محاولاتها المتكررة لإصلاح المؤسسات الاقتصادية العمومية، مثل الناقلة الجوية وشركات النقل الحديدي وقطاع استخراج الفوسفات ونقله وتكريره. وكانت نتائج الفشل تظهر في عجز التعليم والصحة والبنية التحتية. حتى حلّ وباء كوفيد فكشف عجز الدولة عن كل عمل اجتماعي.
لقد تحولت المؤسسات الاقتصادية العمومية إلى عبء على الموازنات، فالدولة تدعمها من الضرائب على الأفراد لتنقذها من إفلاسها. وكان آخر المستفيدين من أزمة الدولة الاجتماعية هو قيس سعيد الذي زايد على الحكومات (بما فيها التي عيّنها بنفسه) لكي يرفع رصيده الشعبوي، لكنه كان أيضاً آخر العاجزين عن إيجاد حل فعلي.
المعطى الأكثر تأثيراً بعد الثورة هو أن الموجة الشعبية الصاعدة بخطاب الثورة والعدالة والحكومات التي تلقفتها (بقطع النظر عن لونها السياسي) لم تُعِد النظر في قدرة الدولة الاجتماعية على الاستمرار فبقي الفعل السياسي رهين الطلب الاجتماعي يسترضيه خوفاً ولا يملك له موارد. وقد سيطر خطاب الترضيات الاجتماعية على كل الخطاب الانتخابي، إذ يصير كل المترشحين اشتراكيين فجأة دون أيّ حديث عن الموارد الفعلية لبرنامجهم في الحكم.
هل يمكن الاستمرار في التمويل الاجتماعي بلا موارد؟
القناعة التي يخاف الجميع التصريح بها الآن هي أن الدولة الاجتماعية لم تعُد قابلة للعيش وقد انكشف عجزها من خلال توجيه القروض الخارجية للترضيات الاجتماعية خوف انفجار الشارع في وجهها. يوفّر الصراع على الدستور وشكل النظام السياسي مهرباً مريحاً للنقاش المهيمن على الساحة، لكن لا أحد يجرؤ على القول: "لنتجه يميناً"، فتحويل القروض إلى رواتب لا يُنتِج تنمية.
المُقرِضون الدوليون يتوقفون الآن عن مزيد من التورط في اقتصاد فقير وعاجز، بقطع النظر عمَّن يحكم، ونصائحهم تتحول إلى أوامر صارمة ومشروطة بالتحول يميناً عبر تخفيف الموازنات الاجتماعية وإطلاق عمليات استثمارية خاصة، والشروع في التخلص من المؤسسات العمومية التي تلتهم الموازنات.
في الداخل يفلح المحللون الاقتصاديون والسياسيون في رؤية الكلفة الاجتماعية القادمة، لكنهم يقفون عند التخويف منها ولا يقترحون بدائل فعالة. ويغرق الكثير منهم في خطاب شعبوي مريح، بخاصة النقابات التي تتقن المزايدة وتستحضر خطاب السيادة الوطنية إزاء مؤسسات الإقراض الدولية.
متى تصارح الطبقة السياسية نفسها والشعب الذي ترغب في حكمه بأن الدولة الاجتماعية لم تعُد قادرة على الاستمرار، وأنه يجب تَحمُّل كلفة الاتجاه نحو ليبرالية صريحة تنظّم فيها الدولة الفعل الاقتصادي الخاص وتمهّد له طرق النجاح ليتحول المحرّك الاقتصادي من يدها المرتعشة إلى يد القطاع الخاصّ المغامر. نعم، إنها مغامرة مكلّفة، لكن تأجيل خوضها يؤدي إلى المزيد من الفشل الاجتماعي.
السياسي الذي سيصارح الشعب بهذه الحقيقة ويتقدم على طريق الليبرالية سيحظى بأكبر قدر من اللعنات الكسولة من شعب المعونة المتواكل على الدولة لكنه سيغيّر وجه تونس في المستقبل.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.