في ظل بوادر الركود الاقتصادي العميق في أوروبا، تتطور الانقسامات الخطيرة بين قوتي الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، حول قضايا متعددة، بما في ذلك الطاقة والدفاع والتجارة الدولية.
كانت كل الأمور على ما يرام حتى تم إلغاء اجتماع وزاري رفيع المستوى بين البلدين الشهر الماضي، مما فاجأ معظم الخبراء والمطلعين الحكوميين على حد سواء بشأن مدى التداعيات.
لإدراك أهمية هذا الاجتماع، ضع في اعتبارك أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز، إلى جانب حكومتيهما، كان من المقرر أن يجتمعوا ويوقعوا عدة اتفاقيات في أكتوبر. كان من الممكن أن يكون هذا أول اجتماع سنوي للمجلس الوزاري الفرنسي الألماني لشولز، لكن البلدين لم يتفقا على جدول الأعمال.
بعود سبب في ذلك إلى سياسة الطاقة والدفاع في الاتحاد الأوروبي وكيفية التعامل مع الصين.
سياسة الطاقة
فشلت الكتلة المكونة من 27 دولة حتى الآن في الاتفاق على سقف أسعار الطاقة - ومن الواضح أنها نقطة محل خلاف - والتي تهدف إلى حماية الاتحاد الأوروبي ككيان مشترك والتفاوض مع موردي الغاز الدوليين كعميل أكثر أهمية، وشراء كميات كبيرة بأسعار أرخص.
بينما تناقش أوروبا سقف أسعار الطاقة، تتخذ العديد من الدول الأوروبية قرارات أحادية الجانب. تسببت ألمانيا، على وجه الخصوص، في إثارة انزعاج خطير في جميع أنحاء أوروبا بعد أن وصفت بعض سياساتها بأنها "أنانية".
برلين، تحت ضغط محلي كبير بسبب ارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية والطاقة، وخلاف الائتلاف السياسي الثلاثي، والحرب في أوكرانيا، أعلنت مؤخرًا عن سياسة دعم طاقوي بقيمة 208 مليار دولار للأسر والألمانية والصناعة.
وقد تسبب هذا الإعلان في قلق شديد في بروكسل وعواصم أوروبية أخرى. فرنسا، على وجه الخصوص، لا تشعر بالرضا، حيث ترى أن سياسة ألمانيا ألمانيا تهدد الشركات الأوروبية.
سيسمح الدعم للشركات الألمانية بميزة غير عادلة على منافسيها الأوروبيين، وبالتالي ستؤثر سلبًا على السوق الداخلية.
قال دبلوماسيون فرنسيون إنهم يشعرون أن ألمانيا تلقي بثقلها وتتخذ قرارات تتعارض أحيانًا مع المصالح الفرنسية.
يقول المسؤولون الفرنسيون أيضا إنهم قلقون من أن الخطة الألمانية التي تقدر بمليارات الدولارات يمكن أن تشوه السوق الأوروبية لأن الدول الأخرى ليس لديها نفس الوسائل لحماية مواطنيها.
سلطت المبادرة الألمانية الضوء أيضًا على الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي الثرية التي يمكنها تحمل قروض جديدة بينما تبحث حكومات الاتحاد الأوروبي التي تعاني من ضائقة مالية عن مصادر التمويل.
مشتريات الدفاع
نقطة أخرى تثير القلق الشديد والنزعة الأحادية الألمانية هي كيف تتطلع أوروبا للدفاع عن نفسها في مواجهة تهديدات الصواريخ الروسية.
تسببت الضربات الصاروخية في أنحاء أوكرانيا في موجات من الذعر في جميع أنحاء المنطقة، حيث سارعت العديد من الدول إلى وضع خطط تعزيز دفاعاتها الجوية.
في اجتماع الناتو الأخير، وقعت مجموعة بقيادة ألمانيا مؤلفة من 14 دولة اتفاقًا بشأن نظام دفاع جوي جديد يسمى مبادرة Sky Shield الأوروبية. هذه المبادرة هي القشة التي قسمت ظهر البعير في العلاقات الفرنسية-الألمانية. فالمبادرة، التي تهدف إلى إنشاء برنامج دفاع جوي مشترك في القارة، لا تشمل فرنسا.
وسيضم الدرع أنظمة ألمانية وأمريكية وإسرائيلية، مما يزعج الفرنسيين بشدة، الذين لطالما دافعوا عن فكرة "السيادة الأوروبية". تعمل فرنسا بالفعل على تطوير درعها الدفاعي الصاروخي مع إيطاليا، لكن نهج ألمانيا الأحادي يشير إلى تشكيل تجمعات عسكرية أصغر داخل أوروبا.
صعود الصين
في العام الماضي، أشار كل من الاتحاد الأوروبي والقيادة الألمانية إلى صعود الصين كقوة عظمى عالمية، إلى جانب الولايات المتحدة. وقد أدى ذلك إلى قيام الاتحاد الأوروبي بتشكيل علاقته مع الصين في مواجهة المعارضة المتصاعدة من الولايات المتحدة.
بعد بروز التبعيات الجديدة من النفط والغاز الروسيين، كرر صناع السياسة الفرنسيون الحاجة إلى جبهة موحدة ضد إنشاء جبهة تبعية جديدة بين الاتحاد الأوروبي والصين. في أكتوبر 2021، وجد تقرير صادر عن المعهد الفرنسي للاستراتيجية العسكرية، IRSEM ، أن "الضغوط الاقتصادية كانت إلى حد بعيد واحدة من أقوى الروافع الدبلوماسية الصينية" في أوروبا.
وهذا يمثل مشكلة خطيرة لألمانيا، حيث أن الصين هي واحدة من أكبر شركائها التجاريين، ويصل التبادل التجاري بينهما إلى 260 مليار دولار تقريبًا العام الماضي.
لذلك، عندما جاء الصينيون لشراء حصة في ثاني أكبر ميناء في أوروبا في هامبورغ، رفض شولز جميع المخاوف الأوروبية والمحلية لإعطاء الضوء الأخضر لعملية البيع.
على صعيد آخر، أرسلت رحلة شولز إلى الصين مع مجموعة من الرؤساء التنفيذيين من الشركات الألمانية الكبرى إشارة إلى فرنسا بأن برلين مستعدة للذهاب بمفردها.
وذلك لأن شولتز قيل إنه رفض عرضًا من ماكرون بالذهاب سويا للتأكيد على فكرة أوروبا الموحدة. تريد فرنسا أن تجعل من أوروبا مركزًا جيوسياسيًا مهمًا، لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا عملت فرنسا وألمانيا معًا لتدعيم نفسيهما في موقع بين الولايات المتحدة والصين.
لكن من الواضح أن شولتز يختار اتخاذ تدابير حمائية لصالح الشركات الألمانية وليس الاتحاد الأوروبي بأكمله. لم تكن العلاقات بين الدول الأوروبية بهذا السوء منذ عقود.
صرح جاك بيير جوجون، الخبير في شؤون ألمانيا في مركز أبحاث مقره باريس، لوسائل الإعلام الألمانية أن الانخفاض البرود الحالي في العلاقات الفرنسية الألمانية خطير للغاية وأن "بعض الدول الأعضاء الأصغر في الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا ودول البلطيق، تشكك القيادة الفرنسية الألمانية ".
مع اندلاع حالة من الذعر المؤسسي في برلين، حيث توجد مخاوف حقيقية من نفاد الغاز في البلاد هذا الشتاء، فإن حالات إفلاس الشركات في المتوسط أعلى بنسبة 30 في المائة عما سبق. وفي ظل وجود قناعة حول خطر اندلاع حرب شاملة تصل إلى أوروبا فإن ألمانيا مستعدة لترك الاتحاد الأوروبي وراءها والمضي قدمًا بمفردها.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.