شهد الأسبوع الفائت حراكاً دبلوماسيّاً نشِطاً في إيران والدول الخليجيّة، تجلّى بزيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى العاصمة الإيرانية طهران ولقائه نظيره الإيراني والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
كما شهد جولةً لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في أربع من الدول الخليجية هي قطر فسلطنة عُمان فالكويت فالإمارات العربية المتحدة، كما أنه لا يمكن إغفال اللقاء الذي جمع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة مع المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي.
تطوير العلاقات
لعلّ الهدف من تلك الزيارات واللقاءات، وحسب التصريحات الرسمية والتسريبات غير الرسمية يندرج تحت عنوانين أساسيين هما: تطوير العلاقات الإيرانية الخليجية والملفّ النووي.
في العنوان الأول يمكن القول إن هذا الانفتاح في العلاقات الإيرانية الخليجية يأتي استكمالاً لبنود الاتفاق الإيراني السعودي، الذي وُقّع في بكين بوساطة صينية في العاشر من شهر مارس/آذار الماضي، وأنهى سبع سنوات من القطيعة الدبلوماسية والعداء العلني بين إيران والسعودية، والقوى التي تدور في مدارهما.
ويبدو أن هذا الاتفاق مع السعودية قد قوّى مكانة إيران في منطقة الخليج ومنحها فسحة كبيرة من حرّية التحرّك في تلك المنطقة، والتعامل بسهولة مع الحكومات الخليجية التي كانت من قبل معاديةً لها بحكم تبعيّتها للسياسة السعودية، وتعدّى الأمر إلى بدء الحديث عن إعادة العلاقات مع مصر ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لإيران والمنطقة.
تهدئة مرحلية
ولكن على الرغم من هذا التحوّل في العلاقات الإيرانية الخليجية ولا سيما مع السعودية، فإنّه لا دلائل واضحة على حلحلة القضايا الكبرى بين الطرفين بعد مرور أكثر من مئة يوم على التوافق بينهما، فكل ما في الأمر هو حديث عن تطوير في العلاقات الاقتصادية والثقافية وبعض التفاهمات الأمنية.
ولعلّ هذا الرأي صحيح، فكلُّ ما حدث لا يتعدّى حتى الآن أن يكون تهدئة مرحليّة لصدام الطرفين في الملفات الساخنة في المنطقة ونزع بعض فتيلها.
وبعيداً من التصريحات الدبلوماسية والبيانات الرسمية وأُمنيات شعوب المنطقة والعالم الإسلامي المتضرر من استمرار العداء الإيراني السعودي، فإن المتأمل في مسارات هذا الاتفاق بين طهران والرياض منذ توقيعه وحتى الآن يُظهر مدى البطء الشديد في تنفيذ بنوده المُعلنة، بغضّ النظر عن مضامينه السرّيّة وبنوده غير المعلنة.
فملفّات الصراع في المنطقة التي يُفترض أن تكون حلولها في جوهر توافق الطرفين ما زالت قائمة وفصولها مستمرّة؛ وباستثناء بعض الخطوات السياسية الرمزية التي تحقّقت من قبيل عودة النظام السُّوري إلى الجامعة العربية وتواصل الهدنة في اليمن واستقبال الحجّاج الإيرانيين وتوقّف الحملات الإعلامية العدائية المتبادلة.
فما زالت مأساة الشعب السوري مستمرّة في ظلّ غياب الحلّ السياسي، وكذا الأمر في اليمن الجريح وفي لبنان المُعطّل المُفلِس وفي غيرها من مواضع النفوذ الإيراني، إذ ظلّت السياسة الإيرانية نفسها نفسها، ولم تتزحزح مواقفها الأساسية قيد أنملة عن مساراتها التقليدية.
ولو أحسنّا الظنّ بنيّات الطرفين ورغبتهما في إيجاد الحلول الحقيقية والمستدامة، لكنّ هذا قد لا يكون كافياً لتسوية مشكلات هذه المنطقة المهمّة وملفّاتها المعقّدة الخطيرة، التي باتت ملعباً لعبث معظم القوى العالمية الكبرى ومقصداً لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل.
الاتفاق النووي
وأما العنوان الثاني لهذا الحراك الدبلوماسي النَّشِط في المنطقة فيرتبط بالملف النووي الإيراني، إذ رشحت أخبار عن بذل العواصم الخليجية، وعلى رأسها الدوحة ومسقط، جهوداً للتوسط بين الجانبين الإيراني والأمريكي لإبرام تفاهم أو اتفاق مؤقّت بينهما، يضمن لهما بعض المطالب والمصالح المقبولة من الطرفين في هذه المرحلة.
وعلى الرغم من إنكار الجانبين الإيراني والأمريكي وجود مثل هذه الوساطات، لكن كثيراً من التسريبات تؤكد وجود صفقة شبه منجزة عبارة عن اتفاق مؤقت بين الطرفين يتضمن إيقاف إيران تخصيب اليورانيوم بدرجات عالية، في مقابل رفع بعض العقوبات الاقتصادية عنها، من قبيل الإفراج عن بعض مليارات الدولارات من أموال نفطها المجمّدة في بنوك الخارج، ورفع مستوى صادراتها من النفط، إضافة إلى ذلك الإفراج المتبادل عن السجناء في البلدين.
إن هذه الصفقة قد تبدو مفيدة ومقبولة من كلا الطرفين في هذه الظروف، فالإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية، وقبل نحو سنة على الانتخابات الرئاسية تدرك في هذه الظروف حساسية العودة إلى الاتفاق النووي الذي خرجت منه إدارة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب عام 2015 وما رافقه من فرض عقوبات اقتصادية على إيران، فهذا الأمر يثير نقمة الشعب الأمريكي عليها فضلاً عن حليفتها إسرائيل، ولا سيما بعد ثبوت تورّط إيران بدعم روسيا في حربها على أوكرانيا وتزويدها بالأسلحة الهجومية.
أما إيران اليوم فلا تمانع في الحصول على هذه الحزمة من المكتسبات الاقتصادية في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تمرُّ بها نتيجة العقوبات والحصار المفروض عليها لسنوات طويلة، ولكنها في الوقت نفسه تصرّ على عدم التنازل عما تسميه حقوقها ومكتسباتها المشروعة، وهي مستمرّة في تطوير مشروعها النووي، وكذلك تقوية أسلحة ردعها وعلى رأسها برنامجها الصاروخي، ودعم الفصائل المقاوِمة لإسرائيل واستقبال قادتها عبر أعلى المستويات.
الورقة الخليجية
إن بناء علاقات صادقة ووطيدة بين إيران ودول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، هو لمصلحة الطرفين والمنطقة، بل العالم الإسلامي برمّته، وهو يوفّر كثيراً من الأموال والطاقات والثروات، ويسخّرها في مجال التنمية والبناء والازدهار، وهو يظل الهدف المأمول من أي حراك ولقاء سياسي بين مسؤولي الطرفين، ويعدّ أكبر غايات شعوب المنطقة التي يرزح كثير منها تحت وطأة الفقر والجهل.
لكن التأمّل في مآلات تلك اللقاءات ونتائج الزيارات بين الطرفين وما تحقّقه من نتائج هزيلة مخيّبة تدفع كثيرين للتشكيك بجدواها، والقول إن هذا الحراك الذي يجري حاليّاً بين طهران والعواصم الخليجية قد لا يعني كثيراً للدول الخليجية ولا يحقق مصالحها الاستراتيجية العليا، وإنما يأتي في سياق الشدّ والجذب بين واشنطن وطهران، وسعي الطرفين لتسخير الورقة الخليجية ولا سيما السعوديّة لخدمته ومصلحته، لما له من أهمية اقتصادية وجيوساسية في المنطقة؛ فأمريكا لن تتخلّى عن المملكة السعودية بسهولة، ولن تتركها لقمة سائغة للصين أو غيرها وفضلاً عن أن تحيّدها في سياسة التصدّي لإيران واحتواء مشروعاتها في المنطقة.
وإيران أيضاً ستسعى جاهدة لاسترضاء السعودية في هذه المرحلة الحسّاسة التي تمرّ بها، وبغضّ النظر عمّا يمكن أن تقدّمه لها، فسوف تحاول إبعاد أكبر قدر من التهديدات العسكرية التي قد تُحدِق بها من طرف السعودية أو من طرف المحور الخليجي الذي يدور في فلكها، وعلى رأسه الإمارات العربية المتحدة.
فهل تدرك الدول الخليجية أهميتها وتستفيد من هذا التنافس لبناء واقع استراتيجي جديد يضمن وجودها طرفاً قويّاً وفاعلاً في معادلات المنطقة ومستقبلها؟
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.