يحمل الواقع في طيّاته كمّاً لا يحتمله الإنسان من الحقيقة التي تتفوّق على قدراته. فسجن الإنسان نفسه في كهف هرباً منها. كبّل يديه وقيّد أرجله بحيث لا يتمكن من الالتفات لرؤية نور الشمس، أي نور الحقيقة. واكتفى بالنظر إلى الجدار أمامه حيث تنعكس ظلال الأشياء، فتتجلّى على شكل صور. وهكذا مع الوقت، اعتاد الإنسان على رؤية تلك الظلال وعدّها حقائق.
يتحدّث أفلاطون في أسطورة الكهف عن بشرية تنمو وتتعايش مع الشائعات والأقاويل وحملات التضليل. إذ يرمز الكهف لمجتمعاتنا الهشة، فيما تشير الظلال والصور إلى "شبه الحقيقة" أو ما هو حقيقي "في نظر" الإنسان. فيسعى إلى حياكة حقيقة تلائمه، ترضي ميوله الداخلية، فتتحكم بالتالي في ردود فعله. ليست تلك الظلال سوى الأخبار الزائفة التي غالباً ما يقوم السياسي والإعلامي بتصنيعها عبر ميكانيزمات منطقية وإستاتيكية وسردية، تتميّز بقدرتها على التأثير والتلاعب والإقناع. فيعتقد الإنسان أنّ ما يسمعه أو يقرأه أو يراه منها، حقيقياً.
تتميّز الأخبار الزائفة التي يقوم السياسي والإعلامي بتصنيعها عبر ميكانيزمات منطقية وإستاتيكية بقدرتها على التأثير والتلاعب والإقناع فيعتقد الإنسان أنّ ما يسمعه أو يقرأه أو يراه منها حقيقياً.
وعندما يصبح الوهم حقيقة، والحقيقة وهماً في ظلّ عصرنا هذا، "عصر ما بعد الحقيقة" (Post-Truth Era) حيث تتفوّق العواطف على الحقائق، تصبح الديمقراطية موضع سؤال.
"حقيقة" الأخبار الزائفة
يغرق الإنسان اليوم في بحر من الأكاذيب. أكاذيب دينية، سياسية، وأخرى فكرية. أكاذيب صُنعت بكلّ احتراف وفق أحدث التقنيات المرئية والمسموعة والرقمية، للتجلّي في كل يوم وكل وقت وكل مكان ومجال وعلى كل المستويات. أكاذيب أبطالها، بعض النشطاء والمحللين وتجار الدين وطبعاً أهل السياسة: فللرئيس الأمريكي دونالد ترمب مثلاً 115 كذبة في الأشهر السّت الأولى من عهده، بحسب صحيفة New York Times. تلك الأكاذيب أنباء زائفة، طاولت الهجمات الإرهابية والزلازل والكوارث الطبيعية والحروب وغيرها من الأحداث التي تفتك بأوطاننا العربية، من ضمنها مصر التي قيل عنها مؤخراً بأنها فقدت أكثر من نصف احتياطها النقدي الأجنبي وأنها أقدمت على بيع منطقة الأهرامات لإحدى الدول العربية.
يُرجّح بعض الباحثين أن موجة "الأخبار الزائفة" (Fake News) التي تجتاح عالمنا قد وُلدت عام 2016، بحيث كانت تشمل حينها "الأخبار الكاذبة المنشورة على فايسبوك"فقط. ويضيفون أنه بعد فترة وجيزة، ساهم هذا النوع من الأخبار في فوز ترمب وتولّيه الحكم، فأصبحت الأخبار الزائفة في عهده سلاحاً يمكن استخدامه لغايات سياسية. وهم يجزمون اليوم أن الأخبار الزائفة أداة من أدوات البروبغندا الخاضعة لسياسات إيديولوجية ومادية معينة من السهل تطبيقها على مجموعة من الأفراد، إذ تنتشر بسرعة فيما بينهم لأنها تقوم على مواضيع حساسة (مثل الحرب، اللاجئين...) للتلاعب بهم.
الأخبار الزائفة أداة من أدوات البروبغندا الخاضعة لسياسات إيديولوجية ومادية معينة من السهل تطبيقها على مجموعة من الأفراد.
إلا أن عمر الأخبار الزائفة من عمر البشرية. إذ تعود أول الآثار الخطيّة لتلفيق الأخبار للعصر الفرعوني، حيث كان يتولّى الناحتون والناسخون عملية التضليل التي ترافق الحضارات على مر العصور. فيُقال عن بروكوبيوس القيسراني، وهو المؤرخ الأول للقرن السادس الميلادي، أنه رأس التضليل الإعلامي والتاريخي البيزنطي، إذ يشكّك الباحثون في مصداقية مدوناته السرية المعروفة باسم"أنكدوتا"، والتي تتناول حكم الإمبراطور جوستينوس حينها. ومع مرور الوقت، كانت الأخبار الزائفة في القرن الثامن عشر، عبارة عن"شائعات"أو أوراق شعبية تتناول أحداثاً من وحي الخيال. أما في القرن التاسع عشر، فكانت تعمد الصحف إلى نشر"خدع"أو بعض النصوص السردية الخيالية لتحقيق نسبة أكبر من المبيعات.
ومع بداية القرن العشرين، أصبحت الكتابات الصحافية منبراً للأخبار الزائفة التي يطلقها السياسيون وكذلك الدول فيما بينها تحضيراً لنشوب الحرب العالمية الأولى. نذكر في هذا الإطار، الحملات الإعلامية التي استهدفت عهد السلطان عبد الحميد الثاني مثلاً، لإضعافه وتنحيته عن الحكم. وقد رافق التضليل الإعلامي الحرب الباردة للتأثير على الرأي العام وإضعاف الخصم. نذكر على سبيل المثال عملية إينفكسيون الروسية التي نُشرت عام 1983والتي تقول بأن فيروس الإيدز مُبتكر في مختبرات عسكرية أمريكية.
وسائل التواصل الاجتماعي، نبض الأخبار الزائفة
قبل سنوات قليلة، اقتحمت وسائل التواصل الاجتماعي حياة الإنسان دون استئذان، فكانت هاجساً يؤرقه، مجهولاً يخشاه، تتعاظم معه مخاوفه. كانت كائناً غريباً جذاباً ومهيباً، ترويضه واجب. حاول مراراً التصدي لها، لكنه بات اليوم أسيراً لديها. فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية. هي هويته الافتراضية، منصته التي تعجّ بأفكاره ومشاعره ورؤيته للأمور. من هنا، يعلّق وينشر عدداً كبيراً من الصور والمقالات في فضاء الحوار والتفاعل، حيث يمكنه اختيار من يرغب في التواصل معه: أفراد عائلته، زملائه، أصدقائه...
إذ تُعد شبكات التواصل الاجتماعي بحسب Eli Pariser الرئيس التنفيذي لموقع Upworthy" فُقاعة"، تجمع بين أفراد ينتمون لبيئة اجتماعية معيّنة واحدة، أو يتشاركون الأفكار والغايات نفسها. إنّ هذه الفُقاعة مسؤولة من جهة، عن بثّ الأمان والثقة في نفوس الإنسان بحيث يتشارك بواسطتها آراءً متقاربة مع الآخرين. ومسؤولة من جهة أخرى، وبواسطة محتوى المنشورات(صور، أفكار، مقالات...) عن توليد العاطفة (الإيجابية منها والسلبية) وتعزيزها لديه؛ ما يجعل من وسائل التواصل الاجتماعي تالياً، بيئة حاضنة للأخبار الزائفة ويعرقل بالتالي مسار الحقيقة، يشوّه المعلومات ويشوّش على من يتلقى جرعة معيّنة من الأخبار، الأخبار التي تشبهه، التي تلبي حاجاته وتدغدع عواطفه.
وسائل التواصل الاجتماعي بيئة حاضنة للأخبار الزائفة تعرقل مسار الحقيقة وتشوّه المعلومات وتشوّش على من يتلقى جرعة معيّنة من الأخبار.
في هذا السياق، أثبتت دراسة علمية نُشرت في مارس/آذار 2018 في مجلة Science، أنّ الأخبار الزائفة أكثر وأسرع انتشاراً من الأخبار الحقيقية والصحيحة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيّما على "تويتر". ولفت الباحثون إلى أن الحقيقة احتاجت لوقت أطول للوصول إلى المستخدمين لأن الأخبار الكاذبة تفاجئ وتسلّي المستخدم، بعكس الأخبار الحقيقية المتشابهة عموماً فيما بينها.
سلوك القراءة
للأخبار الزائفة أشكال عديدة، نذكر أبرزها:
- انغلاق المستخدم على نفسه.
- التلاعب بالمضمون أي بالمعلومات والصور بقصد خداع المستخدم.
- تضليل المضمون أو المعلومات لتشويه سمعة أحدهم.
- مضمون خاطئ.
وعديدة هي الأسباب التي تجعل المستخدم يقع ضحيّة الأخبار المزيفة، منها:
- العاطفة.
- محتوى الخبر الضعيف.
- التقدم في السن.
- قدرات معرفية منخفضة.
- الانغلاق على النفس.
- ظاهرة الـInfobesity أو التدفق المستمر للمعلومات (أو كمية المعلومات الزائدة). وتعني هذه الظاهرة تلقّي المستخدم كمية كبرى من المعلومات والأخبار؛ ما يصعّب عليه عملية التمييز بين المعلومة الحقيقية والكاذبة. هذا ما يحصل غالباً في مجتمعاتنا العربية، حيث تتدفق الأخبار من أكثر من مصدر، فتتناوله الوسائل الإعلامية المتنافسة فيما بينها واللاهثة خلف الـrating بسبب الأزمة التي تعصف بها.
في هذا الإطار يتحدّث الكاتب كامل داوود عن القارئ المزيّف (Fake Reader)، قارئ القرن الواحد والعشرين، قارئ الأخبار الزائفة الذي يدّعي معرفة كل شيء، فيرى أنه قرأ الخبر بتمعن وأنه بات يمتلك المعلومات الصحيحة في حين أنه ضحية التضليل. إن طريقة تقييم المستخدم للخبر أو المقال هو ما يحدد قابليته للأخبار الزائفة إذن، فمن لا يقرأ الخبر بأكمله، ومن يتوقف عند العنوان، ومن لا يحلل مضمون المقال هو الأكثر عرضة للوقوع في فخ الأخبار الزائفة. فقد أثبتت دراسة أن 6 من كل 10 مستخدمين ينشرون مقالاً على وسائل التواصل الاجتماعي وذلك بعد قراءتهم للعنوان فقط، وأن 23% من الأمريكيين ينشرون قصصاً وهمية.
ديمقراطية زائفة
أثبتت آخر الأبحاث، أن نسبة استخدام مصطلح "الأخبار الزائفة" قد ارتفع بشكل هائل منذ عام 2016 في الولايات المتحدة الأمريكية كما في أوروبا وخصوصاً في البلدان العربية، حيث تبيّن أنّ هذا النوع من الأخبار قد أصبح أكثر شيوعاً منذ عام 2011، أي تزامناً مع اندلاع الربيع العربي.
استخدام العرب لوسائل التواصل الاجتماعي حينها كان يعكس بوجه خاص محنة اجتماعية مُتلاعباً بها ورغبة في التغيير يغلبها الضعف والتقاعس والتقوقع في الفضاء الافتراضي.
فاستخدام العرب لوسائل التواصل الاجتماعي حينها كان يعكس بوجه خاص محنة اجتماعية مُتلاعباً بها ورغبة في التغيير يغلبها الضعف والتقاعس والتقوقع في الفضاء الافتراضي. محنة قام البعض باستغلالها أثناء الثورة عبر ضخّ كمّ هائل من الأخبار والشعارات التي تحاكي طموح الشباب العربي وتراقص أحلامه على وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى تداولها بشكل سريع وإعاقة عملية التفكير لدى المستخدم. ومع طغيان العاطفة، لم يعد للحقيقة السياسية أي أهمية لدى الشعب الذي استسلم لواقع الأكاذيب "الرومنسية" التي تلبي حاجاته والتي أبعدته عن هدفه الفعلي: التغيير.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.