من الواضح أنّ الموقف الفلسطيني مُعارض للمشاركة فيها، من منطلق كونها لا ترقى إلى مستوى توفير حلول رئيسة للجوانب السياسية للصراع، بالإضافة إلى موقف السلطة الفلسطينية من ترمب وإدارته ابتداء من أواخر العام 2017 بعد قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لكن من الضروري في المقابل فهم وتحليل الموقف الإسرائيلي
من هذه الورشة. فإسرائيل بدايةً لن ترسل ممثلاً رفيع المستوى عنها، أي بدرجة وزير.
ومقابل ذلك فإنّ ترمب لا يريد إحراج نتنياهو في ظل أجواء الانتخابات البرلمانية القريبة التي لم يحسب حسابها. وعليه، فإنّ إدارته قد أعلنت عن تأجيل نشر مكونات "صفقة القرن" السياسية إلى مطلع شهر نوفمبر القادم، أي إلى حين تتشكل الحكومة الجديدة في إسرائيل، التي تعوّل إدارة ترمب على فوز نتنياهو بالانتخابات وتكليفه تشكيلها.
الصمت الهادف
لهذا، يميل نتنياهو ووزراؤه وعدد من السياسيين في إسرائيل إلى تفضيل الصمت على الكلام، وإطلاق البيانات والتصريحات السياسية هنا وهناك. ويرجح كثيرون من المحللين أن هذا الصمت هو عملياً "صمتٌ هادف"، أي ليس حاملاً لهدف فحسب، بل موجه نحو هدف ما.
فالهدف الذي يحمله الصمت هو توفير حيز مساحة عريض ليتحرك فيه ترمب ومستشاروه، تكون إسرائيل بعيدة عن التأثير عليه. وتكون توجهاته نحو طرح مشاريع اقتصادية لبناء أسس الحياة في السلطة الفلسطينية ولبنان ومصر والأردن.
بمعنى آخر، فإنّ إدارة ترمب تعمل على هندسة جديدة للشرق الأوسط الجديد، الذي يجري الحديث عنه منذ فترة طويلة من الزمن. شرق أوسط جديد وُضعت هندسته ومعاييره بما يتناسب والمقاسات الإسرائيلية وليست مقاسات واحتياجات ورغبات دول وشعوب المنطقة. فالآلة السياسية الأمريكية تعمل في حالة "ورشة البحرين" على خدمة إسرائيل لتكون ضامنة لوجودها وبقائها.
إسرائيل هي المستفيد الأكبر من هذه الورشة بكونها اقتصادية لا سياسية تمنح نتنياهو مساحة واسعة وعريضة لمتابعة إدارة الصراع وليس حلّـه.
أصوات إسرائيلية مشككة
وعلى الرغم من هذا الصمت الهادف لدى أطراف الحكومة الإسرائيلية الحالية، فإنّ أصواتاً من محللين ومراقبين في إسرائيل تنادي بأخذ الحيطة والحذر من مشروع هذه الورشة، خصوصًا أن تنبيهاتهم تنطلق من قراءة معمّقة لتجارب الماضي، وخصوصاً منذ أن بدأت المفاوضات بين مصر وإسرائيل في كامب دافيد، وما تلاها مع أطراف أخرى للصراع (سوريا، لبنان، الأردن، منظمة التحرير الفلسطينية) في مدريد وواي بلانتيشين وغيرها.
كانت ميزة هذه المفاوضات كونها سياسية في هدفها
ومضمونها، مع أنها كانت تحمل روحاً وتوجهاً اقتصادياً في مركباتها.
وهذا يعني أنّ المُركب الاقتصادي كان يأتي بعد السياسي، لا قبله. ويدعو هؤلاء حكومة إسرائيل إلى التمسك بالخيار السياسي أولاً، فالصراع في جوهره سياسي لا اقتصادي.
أما في ظل رئاسة ترمب فإنّه ينظر إلى حل الصراعات وفقًا للمبادئ والرؤى الاقتصادية. فالرجل يعتقد أنّ كل الصراعات والنزاعات السياسية في العالم، تجد حلّها في البيت الاقتصادي.
ولم يطرح هذا التوجه في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني إلا بعد أن انحاز ترمب إلى إسرائيل بالكامل من خلال إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة من تل أبيب الى القدس، وإعلانه عن حق إسرائيل بضم الجولان السوري المحتل، وتصريحات سفير الولايات المتحدة في إسرائيل ومستشار الرئيس الشخصي بعدم وجود أي مانع لضم مستوطنات إسرائيلية في أراضي الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية.
هذا الانحياز الواضح لإسرائيل، دفع بالفلسطينيين وبعض الحكومات العربية إلى الإعلان عن رفضها المشاركة في هذه الورشة رغم ترويج الولايات المتحدة لها بكونها تعيد ترتيب الأوراق الاقتصادية وبالتالي السياسية لثبات واستقرار الحكومات وسط قلاقل وهزّات تحدث وستحدث في الشرق الأوسط.
نتنياهو غير راغب في حل جذري للصراع بل إدارته مربعًا وراء مربع وخلال عملية إدارته هذه يحقق مزيدًا من الابتزاز السياسي من الفلسطينيين.
في ظل هذه البيئة فإنّ إسرائيل هي المستفيد الأكبر من هذه الورشة، بكونها اقتصادية لا سياسية تمنح نتنياهو مساحة واسعة وعريضة لمتابعة إدارة الصراع وليس حلّـه.
فنتنياهو منذ حكومته الأولى غير راغب في حل جذري للصراع، بل إدارته مربعًا وراء مربع. وخلال عملية إدارته هذه، يحقق مزيدًا من الابتزاز السياسي من الفلسطينيين مدعوماً من الإدارة الأمريكية.
فإن كان نتنياهو يظهر للوهلة الأولى صامتاً أو محافظاً على حقه في الصمت لكونه منشغلاً بالمعركة الانتخابية القادمة للكنيست الإسرائيلي، فإنّه يتابع سير التحضيرات للورشة وسط تفعيل ضغط شديد (غير مباشر) على عدد من الحكومات العربية للمشاركة بذريعة أن هذه الورشة مفيدة لاقتصادياتها، وتعزز بقاء الحكومات وأنظمتها كما هي.
فبقاء هذه الأنظمة فيه مساهمة في ضمان كسب إسرائيل لاستقرار سياسي وأمني في المنطقة، بالإضافة إلى تشكيل عدو جديد لها -أي لإسرائيل- وللعرب (خصوصًا دول الخليج وفي مقدمتها السعودية) هو إيران.
فلنأخذ مجمل المكونات المشار إليها أعلاه، فإنّ المستفيد
الأول هو إسرائيل، إذ تعمل الولايات المتحدة عنها، وسط صمت رسمي كي لا ينزعج الرجل
الأول في البيت الأبيض، وثانيًا تقزيم حجم الصراع لتجعله اقتصادياً بحتاً.
لكن، بنظري أنّ محاولة ترمب تغيير تركيب المعادلة العلاجية للصراع لن تتكلل بالنجاح.
فالفلسطينيون ليسوا مجرد طرف للصراع، وإن كان مُقزَّماً، إلا أنهم يمتلكون ورقة قوية بيدهم هي التخلي عن السلطة الفلسطينية، وإعادة المفاتيح للاحتلال، ليس رغبة من القيادة الفلسطينية، إنما "مرغم أخاك لا بطل". أو التخلي عن المسار التفاوضي (القائم بخجل) لتطلق انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية، وجمرتها جاهزة.
عدم حضور وفد فلسطيني أو امتناع رجال أعمال فلسطينيين من المشاركة في الورشة يزيد قلق إسرائيل لاحتمال وقوع خلل في منظومة الهدوء والاستقرار الحاليين في الضفة الغربية، أي إن عدم المشاركة في الورشة، يعني إبقاء ساحة الصراع داخلية تؤثر على السياسة في إسرائيل.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.